فصل: تفسير الآية رقم (57)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏30- 34‏]‏

‏{‏وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ‏(‏30‏)‏ فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآَتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ ‏(‏31‏)‏ قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آَمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَنْ مِنَ الصَّاغِرِينَ ‏(‏32‏)‏ قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ ‏(‏33‏)‏ فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ‏(‏34‏)‏‏}‏

ولما كان في هذا من شرف العفة ما يدل على كمال العصمة، وأكده تعالى بما يدل على تسامي حسنه وتعالي جماله ولطفه، لأن العادة جرت بأن ذلك كان بعضه لأحد كان مظنة لميله، لتوفير الدواعي على الميل إليه، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏وقال نسوة‏}‏ أي جماعة من النساء لما شاع الحديت؛ ولما كانت البلدة كلما عظمت كان أهلها أعقل وأقرب إلى الحكمة، قال‏:‏ ‏{‏في المدينة‏}‏ أي التي فيها امرأة العزيز ساكنة ‏{‏امرأت العزيز‏}‏ فأضفنها إلى زوجها إرادة الإشاعة للخبر، لأن النفس إلى سماع أخبار أولى الأخطار أميل؛ والعزيز‏:‏ المنيع بقدرته من أن يضام، فالعزة أخص من مطلق القدرة، وعبرن بالمضارع في ‏{‏تراود فتاها‏}‏ أي عبدها نازلة من افتراش العزيز إلى افتراشه ‏{‏عن نفسه‏}‏ إفهاماً لأن الإصرار على المراودة صار لها كالسجية؛ والفتى‏:‏ الشاب، وقيده الرماني بالقوي، قال‏:‏ وقال الزجاج‏:‏ وكانوا يسمون المملوك فتى شيخاً كان أو شاباً، ففيه اشتراك على هذا ‏{‏قد شغفها‏}‏ ذلك الفتى ‏{‏حباً‏}‏ أي من جهة الحب، قال الرماني‏:‏ شغاف القلب غلافه، وهو جلدة عليه، يقال‏:‏ دخل الحب الجلد حتى أصاب القلب، عن السدى وأبي عبيدة وعن الحسن أنه باطن القلب، وعن أبي علي‏:‏ وسط القلب-انتهى‏.‏ والذي قال في المجمل وغيره أنه غلاف القلب، وأحسن من توجيه أبي عبيدة له أن حبه صار شغافاً لها، أي حجاباً، أي ظرفاً محيطاً بها، وأما «شعفها»- بالمهملة فمعناه‏:‏ غشى شعفة قلبها، وهي رأسه عند معلق النياط، وقال الرماني‏:‏ أي ذهب بها كل مذهب، من شعف الجبال، وهي رؤوسها‏.‏

ولما قيل ذلك، كان كأنه قد قيل‏:‏ فكان ماذا‏؟‏ فقيل- وأكد لأن من رآه عذرها وقطع بأنهن لو كن في محلها عملن عملها ولم يضللن فعلها‏:‏ ‏{‏إنا لنراها‏}‏ أي نعلم أمرها علماً هو كالرؤية ‏{‏في ضلال‏}‏ أي محيط بها ‏{‏مبين‏}‏ لرضاها لنفسها بعد عز السيادة بالسفول عن رتبة العبد، ودل بالفاء على أن كلامهن نقل إليها بسرعة فقال‏:‏ ‏{‏فلما سمعت‏}‏ أي امرأة العزيز ‏{‏بمكرهن‏}‏ وكأنهن أردن بهذا الكلام أن يتأثر عنه ما فعلت امرأة العزيز ليرينه، فلذلك سماه مكراً ‏{‏أرسلت إليهن‏}‏ لتريهن ما يعذرنها بسببه فتسكن قالتُهن ‏{‏وأعتدت‏}‏ أي هيأت وأحضرت ‏{‏لهن متكاً‏}‏ أي ما يتكئن عليه من الفرش اللينة والوسائد الفاخرة، فأتينها فأجلستهن على ما أعدته لهن ‏{‏وأتت كل واحدة‏}‏ على العموم ‏{‏منهن سكيناً‏}‏ ليقطعن بها ما يحتاج إلى القطع مما يحضر من الأطعمة في هذا المجلس؛ قال أبو حيان‏:‏ فقيل‏:‏ كان لحماً، وكانوا لا ينهشون اللحم، إنما كانوا يأكلونه حزاً بالسكاكين‏.‏ وقال الرماني‏:‏ ليقطعن فاكهة قدمت إليهن- انتهى‏.‏ هذا الظاهر من علة إتيانهن وباطنه إقامة الحجة عليهن بما لا يجدن له مدفعاً مما يتأثر عن ذلك ‏{‏وقالت‏}‏ ليوسف فتاها عليه الصلاة والسلام ‏{‏اخرج عليهن‏}‏ فامتثل له ما أمرته به كما هو دأبه معها في كل ما لا معصية فيه، وبادر الخروج عليهن ‏{‏فلما رأينه‏}‏ أي النسوة ‏{‏أكبرنه‏}‏ أي أعظمن يوسف عليه الصلاة والسلام جداً إعظاماً كربّهن ‏{‏وقطعن‏}‏ أي جرحن جراحات كثيرة ‏{‏أيديهن‏}‏ وعاد لومهن عذراً، والتضعيف يدل على التكثير، فكأن السكين كانت تقع على يد إحداهن فتجرحها فترفعها عن يدها بطبعها، ثم يغلبها الدهش فتقع على موضع آخر وهكذا ‏{‏وقلن حاش‏}‏ أي تنزيهاً عظيماً جداً ‏{‏لله‏}‏ أي الملك الأعلى الذي له صفات الكمال التي خلق بها مثل هذا‏.‏

ولما كان المراد بهذا التنزيه تعظيمه، بينه بقولهن‏:‏ ‏{‏ما هذا بشراً‏}‏ لأنه فاق البشر في الحسن جداً، وأعرض عن الشهوة من غير علة، نراها مانعة له لأنه في غاية القوة والفحولية، فكأنه قيل‏:‏ فما هو‏؟‏ فقلن‏:‏ ‏{‏إن‏}‏ أي ما ‏{‏هذا‏}‏ أي في هذا الحسن والجمال، وأعدن الإشارة دفعاً لإمكان الغلط ‏{‏إلا ملك كريم *‏}‏ وذلك لما ركز في الطباع من نسبة كل معنى فائق إلى الملائكة من الحسن والعفة وغيرهما وإن كانوا غير مرئيين، كما ركز فيها نسبة ضد ذلك إلى الجن والشياطين، فكأنه قيل‏:‏ فما قالت لهن امرأة العزيز‏؟‏ فقيل‏:‏ ‏{‏قالت فذالكن‏}‏ أي الفتى العالي الرتبة جداً ‏{‏الذي لمتنني فيه‏}‏‏.‏

ولما علمت أنهن عذرنها، قالت مؤكدة استلذاذاً بالتهتك في حبه‏:‏ ‏{‏ولقد‏}‏ أي أقول هذا والحال أني والله لقد تحقق أني ‏{‏راودته عن نفسه‏}‏ أي لأصل إليه بما أريد ‏{‏فاستعصم‏}‏ أي فأوجد العصمة والامتناع عليّ فاشتد اعتصامه، وما أنا براجعة عنه؛ ثم توعدته وهو يسمع لِيَلين، فقالت لهن مؤكدة لأن حال حبها يوجب الإنكار لأن تفعل ما يؤذي المحبوب‏:‏ ‏{‏ولئن لم يفعل‏}‏ أي هذا الفتى الذي قام عذرى عندكن فيه ‏{‏ما أمره‏}‏ أي أمري ‏{‏ليسجنن‏}‏ أي ليمنعن من التصرف بالحبس بأيسر سعي مني‏.‏ ولما كان عزمها على السجن أقوى من العزم على إيقاع الصغار به، أكدته بالنون الثقيلة وقالت‏:‏ ‏{‏وليكونا‏}‏ بالنون الخفيفة ‏{‏من الصاغرين *‏}‏ أي الأذلاء، أو أن الزيادة في تأكيد السجن لأنه يلزم منه إبعاده، وإبعاد الحبيب أولى بالإنكار من إهانته، فقال له النسوة‏:‏ أطعها لئلا تسجنك وتهينك، فكأنه قيل‏:‏ فما قال‏؟‏ فقيل‏:‏ ‏{‏قال‏}‏ يهتف بمن فنى بشهوده عن كل مشهود، دافعاً عن نفسه ما ورد عليه من وسوسة الشيطان في أمر جمالها وأمر رئاستها ومالها، ومن مكر النسوة اللاتي نوّعن له القول في الترغيب والترهيب عالماً بأن القوة البشرية تضعف عن حمل مثل هذا إلا بتأييد عظيم، مسقطاً للأداة على عادة أهل القرب‏:‏ ‏{‏رب السجن‏}‏ وهو محيط مانع من الاضطراب فيما خرج عنه ‏{‏أحب إليّ‏}‏ أي أقل بغضاً ‏{‏مما يدعونني‏}‏ أي هؤلاء النسوة كلهن ‏{‏إليه‏}‏ لما علم من سوء عاقبة المعصية بعد سرعة انقضاء اللذة، وهذه العبارة تدل على غاية البغض لموافقتها، فإن السجن لا يتصور حبه عادة، وإنما المعنى أنه لو كان يتصور الميل إليه كان ميلي إليه أكثر، لكنه لا يتصور الميل إليه لأنه شر محض، ومع ذلك فأنا أوثره على ما دعونني إليه، لأنه أخف الضررين، والحاصل أنه أطلق المحبة على ما يضادها في هذا السياق من البغض بدلالة الالتزام، فكأنه قيل‏:‏ السجن أقل بغضاً إلى ما تدعونني إليه، وذلك هو ضد «أحب» الذي معناه أكثر حباً، ولكن حولت العبارة ليكون كدعوى الشيء مقروناً بالدليل، وذلك أنه لما فوضل في المحبة بين شيئين أحدهما مقطوع ببغضه، فُهم قطعاً أن المراد إنما هو أن بغض هذا البغيض دون بغض المفضول، فعلم قطعاً أن ذلك يظن حبه أبغض من هذا المقطوع ببغضه، وكذا كل ما فوضل بينهما في وصف يمنع من حمله على الحقيقة كون المفضل متحققاً بضده- والله الموفق؛ والدعاء‏:‏ طلب الفعل من المدعو، وصيغته كصيغة الأمر إلا أن الدعاء لمن فوقك، والأمر لمن دونك ‏{‏وإلا تصرف‏}‏ أي أنت يا رب الآن وفيما يستقبل من الزمان، مجاوزاً ‏{‏عني كيدهن‏}‏ أي ما قد التبس من مكرهن وتدبيرهن الذي يردن به الخبث احتيالاً على الوصول إلى قصدهن خديعة وغروراً ‏{‏أصب‏}‏ أي أمل ميلاً عظيماً ‏{‏إليهن‏}‏ لما جبل الآدمي عليه من الميل النفساني إلى مثل ذلك، ومتى انخرق سياج صيانته بواحدة تبعها أمثالها، واتسع الخرق على الراقع، ولذلك قال‏:‏ ‏{‏وأكن‏}‏ أي كونا هو كالجبلة ‏{‏من الجاهلين‏}‏ أي الغريقين في الجهل بارتكاب مثل أفعالهم ‏{‏فاستجاب له ربه‏}‏ أي أوجد المحسن إليه إيجاداً عظيماً إجابة دعائه الذي تضمنه هذا الثناء، لأن الكريم يغنيه التلويح عن التصريح- كما قيل‏:‏

إذا أثنى عليك المرء يوماً *** كفاه من تعرّضه الثناءُ

وفعل ذلك سبحانه وتعالى إكراماً له وتحقيقاً لما سبق من وعده في قوله‏:‏ ‏{‏كذلك لنصرف عنه السوء‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 24‏]‏ الآية ‏{‏فصرف عنه كيدهن‏}‏ ثم علل ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏إنه هو السميع‏}‏ أي للأقوال ‏{‏العليم *‏}‏ بالضمائر والنيات، فيجيب ما صح فيه القصد وطاب منه العزم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏35- 38‏]‏

‏{‏ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآَيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ ‏(‏35‏)‏ وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآَخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏36‏)‏ قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ ‏(‏37‏)‏ وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آَبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ ‏(‏38‏)‏‏}‏

ولما كانت هذه الأمور موجبة لرفعته، فكان حينئذٍ أبعد شيء عن السجن لو كان الناس متمكنين من جري أمورهم على حسب السديد من عقولهم، أخبر تعالى أنهم خالفوا داعي السداد واستبدلوا الغيّ بالرشاد، لحكمه بأن السجن سبب عظيم لصرف كيدهن عنه وإثبات العز والمكنة له، ففعلوا- مع علمهم بأن ذلك ظلم وسفه- إجابة لغالب أمر الله وإظهاراً لعليّ قدره بمخالفة العوائد مرة بعد مرة، وهدم سداد الأسباب كرة أثر كرة؛ فقال‏:‏ ‏{‏ثم‏}‏ لهذا المعنى، وهو أنهم كان ينبغي أن يكونوا من سجنه في غاية البعد ‏{‏بدا‏}‏ أي ظهر بعد الخفاء كما هي عادتهم ‏{‏لهم‏}‏ والبداء في الرأي‏:‏ التلون فيه لظهور ما لم يكن ظهر منه‏.‏

ولما كان ذلك الظهور في حين من الدهر تلونوا بعده إلى رأي آخر، أدخل الجار دلالة على ذلك فقال‏:‏ ‏{‏من بعد ما رأوا‏}‏ أي رؤيتهم ‏{‏الأيات‏}‏ القاطعة ببراءته القاضية بنزاهته من قد القميص وشهادة الشاهد وغير ذلك‏.‏

ولما كان فاعل «بداء» رأى، فسره بقوله مؤكداً، لأنه لا يصدق أن الإنسان يفعل ما ظهر له المانع منه‏:‏ ‏{‏ليسجننه‏}‏ فيمكث في السجن ‏{‏حتى حين‏}‏ أي إلى أن تنسى تلك الإشاعة، ويظهر الناس أنها لو كانت تحبه ما سعت في سجنه، وقيل‏:‏ إن ذلك الحين سبع سنين، قيل‏:‏ كان سبب ذلك أنها قالت للعزيز‏:‏ إن هذا قد فضحني في الناس وهو يعتذر إليهم ويصف الأمر كما يحب، وأنا محبوسة، فإما أن تأذن لي فأخرج فأعتذر كما يعتذر، وإما أن تسويه بي في السجن؛ قال أبو حيان‏:‏ قال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ فأمر به فحمل على حمار وضرب أمامه بالطبل، ونودي عليه في أسواق مصر أن يوسف العبراني أراد سيدته، فهذا جزاءه أن يسجن‏!‏ قال أبو صالح‏:‏ ما ذكر ابن عباس رضي الله عنهما هذا الحديث إلاّ بكى- انتهى‏.‏ وهذا دليل على قوله ‏{‏إن كيدكن عظيم‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 28‏]‏‏.‏

قال الإمام فخر الدين الرازي في كتاب اللوامع‏:‏ وعلى الجملة فكل أحوال يوسف عليه الصلاة والسلام لطف في عنف، ونعمة في طي بلية ونقمة، ويسر في عسر، ورجاء في يأس، وخلاص بعد لات مناص، وسائق القدر ربما يسوق القدر إلى المقدور بعنف، وربما يسوقه بلطف، والقهر والعنف أحمد عاقبة وأقل تبعة- انتهى‏.‏

ولما ذكر السجن، وكان سبباً ظاهراً في الإهانة، شرع سبحانه يقص من أمره فيه ما حاصله أنه جعله سبب الكرامة، كل ذلك بياناً للغلبة على الأمر والاتصاف بصقات القهر، مع ما في ذلك من بيان تحقق ما تقدم به الوعد الوفي ليوسف عليه الصلاة والسلام وغير ذلك من الحكم، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏ودخل‏}‏ أي فسجنوه كما بدا لهم ودخل ‏{‏معه السجن فتيان‏}‏‏:‏ خباز الملك وساقيه، ورفع إليه أن الخباز أراد أن يسمه، وظن أن الساقي مالأه على ذلك، و«مع» تدل على الصحبة واستحداثها، فهي تدل على دخول الثلاثة السجن في آن واحد- قاله أبو حيان، فلما دخلوا السجن كان يوسف عليه الصلاة والسلام يحسن إلى أهله فيسلي حزينهم، ويعود مريضهم، ويسأل لفقيرهم، ويهديهم إلى الخير، ويذكرهم بالله، فمالت إليه القلوب وكلفت به النفوس لحسن حديثه ولطيف تأتيه وما جباه الله به من الفضل والنبل وحسن الخَلق والخُلق، وكان في السجن ناس قد انقطع رجاءهم واشتد بلاءهم، فلم يزل يرفق بهم حتى قالوا‏:‏ بارك الله فيك‏!‏ ما أحسن وجهك وأحسن خلقك وأحسن حديثك‏!‏ لقد بورك لنا في جوارك، ما نحب أنا كنا في غير هذا لما تخبرنا به من الأجر والكفارة والثواب والطهارة، من أنت يا فتى‏؟‏ فأخبرهم بنسبه الشريف، فقال عامل السجن‏:‏ لو استطعت لخليت سبيلك‏!‏ ولكن سأحسن جوارك وإيثارك، وأحبه الفتيان ولزماه فقال‏:‏ أنشد كما الله أن تحباني، فوالله ما أحبني أحد قط إلاّ دخل على من جهته بلاء‏!‏ لقد أحبتني عمتي فدخل عليّ من جهتها بلاء، ثم أحبني أبي فدخل عليّ من جهته بلاء، ثم أحبتني زوجة صاحبي هذا فدخل عليّ من جهتها بلاء، فلا تحباني، فأبيا إلاّ حبه، فكأنه قيل‏:‏ أيّ شيء اتفقى لهما بعد الدخول معه‏؟‏ فقيل‏:‏ ‏{‏قال أحدهمآ‏}‏ ليوسف عليه الصلاة والسلام، ولعل التأكيد إما لأنه كانت عادتهما المزح، وإما لأنهما ما رأيا شيئاً- كما قال الشعبي- وإنما صنفا هذا ليختبراه به ‏{‏إني أراني‏}‏ حكى الحال الماضية في المنام ‏{‏أعصر‏}‏ والعصر‏:‏ الاعتماد على ما فيه مائية ليحتلب منه ‏{‏خمراً‏}‏ أي عنباً يؤل إلى الخمر ‏{‏وقال الآخر‏}‏ مؤكداً لمثل ما مضى ‏{‏إني أراني أحمل‏}‏ والحمل‏:‏ رفع الشيء بعماد نقله ‏{‏فوق رأسي خبزاً‏}‏ أي طعاماً مهيأ للأكل بالخبز، وهو عمل الدقيق المعجون بالبسط واللزق في حامٍ بالنار حتى يصلح للأكل ‏{‏تأكل الطير منه‏}‏ وسيأتي شرح الرؤيا من التوراة، فكأنه قيل‏:‏ فماذا تريدان من الإخبار بهذا‏؟‏ فقالا‏:‏ ‏{‏نبئنا‏}‏ أي أخبرنا إخباراً عظيماً ‏{‏بتأويله‏}‏ أي ما يرجع أمره ويصير إليه، فكأنه قيل‏:‏ وما يدريكما أني أعرف تأويله‏؟‏ فقالا‏:‏ ‏{‏إنا نراك‏}‏ على حالٍ علمنا بها علماً هو كالرؤية أنك ‏{‏من المحسنين *‏}‏ أي العريقين في وصف الإحسان لكل أمر تعانيه، فلذلك لاح لنا أنك تحسن التأويل قياساً، فلما رآهما بصيرين بالأمور ‏{‏قال‏}‏ إشارة إلى أنه يعرف ذلك وأدق منه، ليقبلا نصحه فيما هو أهم المهم لكل أحد،- وهو ما خلق العباد له من الاجتماع على الله- لتفريغهما للفهم لكلامه والقبول لكل ما يلقيه لاحتياجهما إلى إفتائهما، مؤكداً ما وصفاه به من الإحسان بما اتبعه من وصف نفسه بالعلم، انتهازاً لفرصة النصيحة عند هذا الإذعان بأعظم ما يكون النصح به من الأمر بالإخلاص في عبادة الخالق والإعراض عن الشرك، فعلى كل ذي علم إذا احتاج إلى سؤاله أحد أن يقدم على جوابه نصحه بما هو الأهم له، ويصف له نفسه بما يرغبه في قبول علمه إن كان الحال محتاجاً إلى ذلك، ولا يكون ذلك من باب التزكية بل من الإرشاد إلى الإئتمام به بما يقرب إلى الله فيكون له مثل أجره‏:‏ ‏{‏لا يأتيكما‏}‏ أي في اليقظة ‏{‏طعام‏}‏ وبين أنه خاص بهما دون أهل السجن بقوله‏:‏ ‏{‏ترزقانه‏}‏ بناه للمفعول تعميماً ‏{‏إلاّ نبأتكما‏}‏ أي أخبرتكما إخباراً جليلاً عظيماً ‏{‏بتأويله‏}‏ أي به وبما يؤل ويرجع إليه أمره‏.‏

ولما كان البيان في جميع الوقت الذي بينه وبين الطعام الذي قبله، نزع الخافض فقال‏:‏ ‏{‏قبل أن يأتيكما‏}‏ أي أخبرتكما بأنه يأتيكما طعام كذا، فيكون سبباً لكذا، فإن المسبب الناشئ عن السبب هو المال‏.‏

ولما وصف نفسه من العلم بما يدعو كل ذي همة إلى السعي في الأسباب التي حصل له ذلك بها ليصير مثله أو يقرب منه، وكان محل أن يقال‏:‏ من علمك ذلك‏؟‏ قال مرشداً إلى الله داعياً إليه أحسن دعاء بما تميل إليه النفوس من الطمع في الفضل‏:‏ ‏{‏ذلكما‏}‏ أي الأمر العظيم؛ ونبه على غزارة علمه بالتبعيض في قوله‏:‏ ‏{‏مما علمني ربي‏}‏ أي الموجد لي والمربي لي والمحسن إليّ، ولم أقله عن تكهن ولا تنجم، فكأنه قيل‏:‏ ما لغيرك لا يعلّمه مثل ما علمك‏؟‏ فقال معللاً له مطمعاً كل من فعل فعله في فضل الله، مؤكداً إعلاماً بأن ذلك أمر عظيم يحق لمثله أن يفعل‏:‏ ‏{‏إني تركت ملة قوم‏}‏ أي وإن كانوا أقوياء على محاولة ما يريدون، فلذلك قدروا على أذاي وسجني بعد رؤية الآيات الشاهدة لي، ونبه على أن ذلك لا يقدم عليه إلاّ من لا يحسب العاقبة بوجه، فقال‏:‏ ‏{‏لا يؤمنون‏}‏ أي يجددون الإيمان لما لهم من العراقة في الكفر ‏{‏بالله‏}‏ أي الملك الأعظم الذي لا يخفى أمره على ذي لب من أهل مصر وغيرهم؛ ثم لوح إلى التحذير من يوم الجزاء الذي لا يغنى فيه أحد عن أحد، منبهاً على أن الكفر به هو القاطع عن العلم وعن كل خير، فقال مؤكداً تأكيداً عظيماً، إشارة إلى أن أمرهم ينبغي أن ينكره كل من يسمعه، ولا يصدقه، لما على الآخرة من الدلائل الواضحة جداً الموجبة لئلا يكذب به أحد‏:‏ ‏{‏وهم بالآخرة‏}‏ أي الدار التي لا بد من الجمع إليها، لأنها محط الحكمة ‏{‏هم‏}‏ أي بضمائرهم كما هم بظواهرهم، وفي تكرير الضمير تنبيه على أن هؤلاء اختصوا بهذا الجهل، وأن غيرهم وقفوا على الهدى ‏{‏كافرون‏}‏ أي عريقون في التغطية لها، فلذلك أظلمت قلوبهم فكانوا صوراً لا معاني لها؛ والملة‏:‏ مذهب جماعة يحمي بعضها لبعض في الديانة، وأصله من المليلة، وهي حمى تلحق الإنسان- قاله الرماني‏.‏

وفي القاموس إن المليلة‏:‏ الحر الكامن في العظم‏.‏ وعبر ب ‏{‏تركت‏}‏ موضع «تجنبت» مثلاً مع كونه لم يلابس تلك الملة قط، تأنيساً لهما واستدراجاً إلى تركهما؛ ثم اتبع ذلك بما يدل على شرف أصله وقدم فضله بأنه من بيت النبوة ومعدن الفتوة، ليكون ذلك أدعى إلى قبول كلامه وإصابة سهامه وإفضاء مرامه، فقال‏:‏ ‏{‏واتبعت‏}‏ أي بغاية جهدي ورغبتي ‏{‏ملة آباءي إبراهيم‏}‏ خليل الله، وهو جد أبيه ‏{‏وإسحاق‏}‏ ابنه نبي الله وهو جده ‏{‏ويعقوب‏}‏ أبيه إسرائيل‏:‏ الله‏.‏ وهو أبوه حقيقة، وتلك هي الحنيفية السمحة التي هي الميل مع الدليل من غير جمود مع هوى بوجه من الوجوه؛ روى البخاري في التفسير وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه قال‏:‏ «سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ أيّ الناس أكرم‏؟‏ قال‏:‏ أكرمهم عند الله أتقاهم، قالوا‏:‏ ليس عن هذا نسألك‏.‏ قال‏:‏ فأكرم الناس يوسف نبي الله ابن نبي الله ابن نبي الله‏:‏ ابن خليل الله، قالوا‏:‏ ليس عن هذا نسألك، قال‏:‏ فعن معادن العرب تسألوني‏؟‏ قالوا‏:‏ نعم، قال‏:‏ فخياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا» فكأنه قيل‏:‏ ما تلك الملة‏؟‏ فقال‏:‏ ‏{‏ما كان لنا‏}‏ أي ما صح وما استقام بوجه من الوجوه، لما عندنا من نور العلم الذي لم يدع عندنا لبساً بوجه أصلاً ‏{‏أن نشرك‏}‏ أي نجدد في وقت ما شيئاً من إشراك ‏{‏بالله‏}‏ أي الذي له الأمر كله، وأعرق في النفي فقال‏:‏ ‏{‏من شيء‏}‏ أي بما شرعه لنا من الدين القويم كانت ملتنا التوحيد، ومن التأكيد العموم في سياق النفي، ليعم ذلك كل شيء من عاقل ملك أو إنسي أو جنى أو غيره؛ ثم علل ذلك بما يعرف به أنه كما وجب عليهم ذلك وجب على كل أحد فقال‏:‏ ‏{‏ذلك‏}‏ أي كان هذا الانتفاء أو ذلك التشريع- للملة الحنيفية وتسهيلها وجعل الفطر الأولى منقادة لها مقبلة عليها- العلي الشأن العظيم المقدار ‏{‏من‏}‏ أجل ‏{‏فضل الله‏}‏ أي المحيط بالجلال والإكرام ‏{‏علينا‏}‏ خاصة ‏{‏وعلى الناس‏}‏ الذين هم إخواننا في النسب عامة، فنحن وبعض الناس شكرنا الله، فقبلنا ما تفضل به علينا، فلم نشرك به شيئاً؛ والفضل‏:‏ النفع الزائد على مقدار الواجب، فكل عطاء الله فضل، فإنه لا واجب عليه، فكان لذلك واجباً على كل أحد إخلاص التوحيد له شكراً على فضله لما تظافر عليه دليلاً العقل والنقل من أن شكر المنعم واجب ‏{‏ولكن أكثر الناس‏}‏ أي لما لهم من الاضطراب مع الهوى عموا عن هذا الواجب، فهم ‏{‏لا يشكرون *‏}‏ فضله بإخلاص العمل له ويشركون به إكراهاً لفطرهم الأولى، فالآية من الاحتباك‏:‏ ذكر نفي الشرك أولاً يدل على وجوده ثانياً، وذكر نفي الشكر ثانياً يدل على حذف إثباته أولاً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏39- 40‏]‏

‏{‏يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ‏(‏39‏)‏ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏40‏)‏‏}‏

ولما أقام لهم الدليل على ما هو عليه من الدين الحنيفي تبعاً لخلاصة الخلق، بما تقرر في الأذهان من أن الله تعالى هو المنعم وحده سبحانه فيجب شكره، بعد أن قرر لهم أمر نبوته وأقام دليلها بما يخبرهم به من المغيبات، ودعاهم إلى ما يجب عليهم من التوحيد وهو الإسلام، وكان أكثر الخلق إلاّ الفذ النادر يقرون بالإله الحق، ولكنهم يشركون به بعض خلقه، أتبعه برهان التمانع على فساد كل ملة غير الإسلام الذي يطابق عليه الأنبياء والرسل كلهم، تأييداً لأدلة النقل بقاطع العقل، فقال منادياً لهما باسم الصحبة بالأداة التي تقال عند ما له وقع عظيم في النفوس في المكان الذي تخلص فيه والمودة، وتمحض فيه النصيحة، وتصفي فيه القلوب، ويتعمد الإخلاص رجاء الخلاص-‏:‏ ‏{‏ياصاحبي السجن‏}‏ والصحبة‏:‏ ملازمة اختصاص كأصحاب الشافعي مثلاً، لملازمة الاختصاص بمذهبه، وهي خلاف ملازمة الاتصال‏.‏

ولما فرغ أفهامهما بالنداء لما يلقيه، قرع أسماعهما بالإنكار مع التقرير فقال‏:‏ ‏{‏أرباب‏}‏ أي آلهة ‏{‏متفرقون‏}‏ متباينون بالذوات والحقائق تشاهدونهم محتاجين إلى المكان مع كونهم جماداً، ولو كانوا أحياء لأمكن تمانعهم، فأدى إلى إمكان عجز كل منهم القاطع بعدم صلاحيته للإلهية ‏{‏خير‏}‏ أي أعظم في صفة المدح وأولى بالطاعة ‏{‏أم الله‏}‏ أي الملك الأعلى ‏{‏الواحد‏}‏ بالذات، فهو لا يحتاج إلى شيء أصلاً ‏{‏القهار *‏}‏ لكل شيء، لا يزال قهره يتكرر أبداً، فهذا برهان لا خطأ به كما ظن، وأبرزه صلى الله عليه وسلم على وجه الاستفهام استجلاباً للسامع برد العلم إليه، وسماها أرباباً لمثل ذلك بناء على زعمهم، وكذا المشاركة في أفعل التفضيل، لأن ذلك أقرب إلى الإنصاف، لكونه ألين في القول، فيكون أدعى إلى القبول‏.‏

ولما كان الجواب لكل من يعقل‏:‏ الله خير، أشار إلى ذلك بجزم القول بعد ذلك الاستفهام في سلب صلاحيتهم قبل هذا الإمكان بعدم حياتهم، وعلى تقدير حياتهم بعجزهم، فقال‏:‏ ‏{‏ما تعبدون‏}‏ والعبادة‏:‏ خضوع بالقلب في أعلى مراتب الخضوع، وبين حقارة معبوداتهم وسفولها بقوله‏:‏ ‏{‏من دونه‏}‏ أي الله الذي قام برهان التمانع- الذي هو البرهان الأعظم- على إلهية وعلى اختصاصه بذلك ‏{‏إلا أسماء‏}‏ وبين ما يريد وأوضحه بقوله‏:‏ ‏{‏سميتموها‏}‏ أي ذوات أوجدتم لها أسماء ‏{‏أنتم وآباؤكم‏}‏ لا معاني لها، لأنه لا أرواح لها فضلاً عن أن تتحقق بمعنى ما سميتموها به من الإلهية، وإن كان لها أرواح فهي منتف عنها خاصة الإلهية، وهي الكمال المطلق الذي يستلزم إحاطة العلم والقدرة‏.‏

ولما كان مقصود السورة وصف الكتاب بالإبانة للهدى، وكان نفي الإنزال كافياً في الإبانة، لأن عبادة الأصنام باطلة، ولم يكن في السياق كالأعراف مجادلة توجب مماحكة ومماطلة ومعالجة ومطاولة، قال نافياً للإنزال بأي وصف كان‏:‏ ‏{‏ما أنزل الله‏}‏ أي المحيط علماً وقدرة‏.‏

فلا أمر لأحد معه ‏{‏بها‏}‏ وأعرق في النفي فقال‏:‏ ‏{‏من سلطان‏}‏ أي برهان تتسلط به على تعظيمها، فانتفى تعظيمها لذاتها أو لغيرها، وصار حاصل الدليل‏:‏ لو كانوا أحياء يحكمون لم يصلحوا للإلهية، لإمكان تمانعهم المؤدي إلى إمكان عجز كل منهم الملزوم لأنهم لأ صلاحية فيهم للإلهية، لكنهم ليسوا أحياء، فهم أجدر بعدم الصلاحية، فعلم قطعاً أنه لا حكم لمقهور، وأن كل من يمكن أن يكون له ثان مقهور؛ فأنتج هذا قطعاً أن الحكم إنما هو لله الواحد القهار، وهو لم يحكم بتعظيمها؛ وذلك معنى قوله‏:‏ ‏{‏إن‏}‏ أي ما ‏{‏الحكم إلاّ لله‏}‏ أي المختص بصفات الكمال؛ والحكم‏:‏ فصل الأمر بما تدعو إليه الحكمة‏.‏

ولما انتقى الحكم عن غيره، وكان ذلك كافياً في وجوب توحيده، رغبة فيما عنده، ورهبة مما بيده، أتبعه تأكيداً لذلك وإلزاماً به أنه حكم به، فقال‏:‏ ‏{‏أمر ألا تعبدوا‏}‏ أي أيها الخلق في وقت من الأوقات على حال من الأحوال ‏{‏إلا إياه‏}‏ أي وهو النافذ الأمر المطاع الحكم‏.‏

ولما قام هذا الدليل على هذا الوجه البين، كان جديراً بالإشارة إلى فضله، فأشار إليه بأداة البعد، تنبيهاً على علو مقامه وعظيم شأنه فقال‏:‏ ‏{‏ذلك‏}‏ أي الشأن الأعظم، وهو توحيده وإفراده عن خلقه ‏{‏الدين القيم‏}‏ أي الذي لا عوج فيه فيأتيه الخلل من جهة عوجه، الظاهر أمره لمن كان له قلب ‏{‏ولكن أكثر الناس‏}‏ أي لما لهم الاضطراب مع الحظوظ ‏{‏لا يعلمون *‏}‏ أي ليس لهم علم، لأنهم لا ينتفعون بعقولهم، فكأنهم في عداد البهائم العجم، فلأجل ذلك هم لا يفردون الله بالعبادة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏41- 42‏]‏

‏{‏يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآَخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ ‏(‏41‏)‏ وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ ‏(‏42‏)‏‏}‏

ولما تم نصحه وعلا قدحه بإلقائه إليهما ما كان أهمّ لهما لو علما لمآله إلى الحياة الأبدية والرفعة السرمدية‏.‏ أقبل على حاجتهما تمكيناً لما ذكره وتأكيداً للذي قرره، فناداهما بالأداة الدالة على أن ما بعدها كلام له موقع عظيم لتجتمع أنفسهما لسماع ما يلقى إليهما من التعبير، فقال‏:‏ ‏{‏ياصاحبي السجن‏}‏ أي الذي تزول فيه الحظوظ ويحصل الانكسار للنفس والرقة في القلب فتتخلص فيه المودة‏.‏

ولما كان في الجواب ما يسوء الخباز، أبهم ليجوّز كل واحد أنه الفائز، فإن ألجأه إلى التعيين كان ذلك عذراً له في الخروج عن الأليق فقال‏:‏ ‏{‏أما أحدكما‏}‏ وهو الساقي فيلخص ويقرب ‏{‏فيسقي ربه‏}‏ أي سيده الذي في خدمته ‏{‏خمراً‏}‏ كما كان ‏{‏وأما الآخر‏}‏ وهو الخباز‏.‏

ولما كان الذي له قوة أن يصلب إنما هو الملك، بنى للمفعول قوله‏:‏ ‏{‏فيصلب‏}‏ ويعطب ‏{‏فتأكل‏}‏ أي فيتسبب عن صلبه أنه تأكل ‏{‏الطير من رأسه‏}‏ والآية من الاحتباك‏:‏ ذكر ملزوم السلامة والقرب أولاً دليلاً على العطب ثانياً، وملزوم العطب ثانياً دليلاً على السلامة أولاً، وسيأتي شرح تعبيره من التوراة، فكأنه قيل‏:‏ انظر جيداً ما الذي تقول‏!‏ وروى أنهما قالا‏:‏ ما رأينا شيئاً، إنما كنا نلعب، فقال مشيراً بصيغة البناء للمفعول إلى عظمة الله وسهولة الأمور عليه‏:‏ ‏{‏قضي الأمر‏}‏ وبينه بقوله‏:‏ ‏{‏الذي فيه‏}‏ أي لا في غيره ‏{‏تستفتيان *‏}‏ أي تطلبان الإفتاء فيه عملاً بالفتوة، فسألتما عن تأويله، وهو تعبير رؤياكما كذبتما أو صدقتما، لم أقله عن جهل ولا غلط‏.‏ وما أحسن إيلاء هذا العلم الثابت لختم الآية السالفة بنفي العلم عن الأكثر، والأحد‏:‏ المختص من المضاف إليه بمبهم له مثل صفة المضاف، ولا كذلك «البعض» فلا يصدق‏:‏ رأيت أحد الرجلين- ألا برجل منهما، بخلاف «بعض» والفتيا‏:‏ الجواب بحكم المعنى، وهو غير الجواب بعلته- ذكره الرماني‏.‏ ولعل رؤيتهما تشيران إلى ما تشير إليه رؤيا الملك، فالعصير يشير إلى السنابل الخضر والبقر السمان، لأنه لا يكون إلا عن فضل، والخبز- الذي طارت به الأطيار، وسارت بروح صاحبه الأقدار-يشير إلى اليابسة والعجاف- والله أعلم‏.‏

ولما كان كل علم بالنسبة إلى علم الله عدماً، عبر عن علمه بالظن، ويمكن أن يكون الظن على بابه لكونه قال ما مضى اجتهاداً بقرائن فيؤخذ منه أنه يسوغ الجزم بما أدى إلى ظن، فقال‏:‏ ‏{‏وقال‏}‏ أي يوسف عليه الصلاة والسلام ‏{‏للذي ظن‏}‏ مع الجزم بأنه أراد به العلم لقوله‏:‏ ‏{‏قضى الأمر‏}‏، ويجوز أن يكون ضمير «ظن» للساقي، فهو حينئذ على بابه ‏{‏أنه ناج منهما‏}‏ وهو الساقي ‏{‏اذكرني عند ربك‏}‏ أي سيدك ملك مصر، بما رأيت مني من معالي الأخلاق وطهارة الشيم الدالة على بعدي مما رُميت به، والمراد بالرب هنا غير المراد به في قوله‏:‏

‏{‏أرباب متفرقون‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 39‏]‏‏.‏ فنجا الساقي وصلب صاحبه وفق ما قال لهما يوسف عليه الصلاة والسلام ‏{‏فأنساه‏}‏ أي الساقي ‏{‏الشيطان‏}‏ أي البعيد من الرحمة المحترق باللعنه ‏{‏ذكر‏}‏ يوسف عليه الصلاة والسلام عند ‏{‏ربه‏}‏ أي بسبب اعتماده عليه في ذلك ‏{‏فلبث‏}‏ أي يوسف عليه الصلاة والسلام بسبب هذا النسيان ‏{‏في السجن‏}‏ من حين دخل إلى أن خرج ‏{‏بضع سنين *‏}‏ ليعلم أن جميع الأسباب إنما أثرها بالله تعالى، وحقيقة البضع من الثلاث إلى التسع، والمروي هنا أنه كان سبعاً‏.‏

ذكر ما مضى من هذه القصة من التوراة

قال بعد ما مضى‏:‏ فأهبط المدينيون يوسف إلى مصر، فاشتراه قوطيفر الأمير صاحب شرطة فرعون- رجل مصري- من يد الأعراب الذين أهبطوه إلى هناك، فكان الرب سبحانه وتعالى بعونه مع يوسف، وكان رجلاً منجحاً، وأقام في منزل المصري سيده، فرأى سيده أن الرب بعونه معه، وأن الرب ينجح جميع أفعاله، فظفر يوسف منه برحمة ورأفة فخدمه، وسلطه على بيته، وخوله جميع ما له، ومن اليوم الذي سلطه على بيته وخوله جميع ما له بارك الرب في بيت المصري من أجل يوسف وفي سببه، فحلَّت بركة الرب في جميع ما له في البيت والحقل، فخول كل شيء له، ولم يكن يعلم بشيء مما له في يده لثقته به ما خلا الخبز الذي كان يأكله، وكان يوسف حسن المنظر صبيح الوجه‏.‏

فلما كان بعد هذه الأمور لمحت امرأة سيده بنظرها إلى يوسف فقالت له‏:‏ ضاجعني‏:‏ فأبى ذلك وقال لامرأة سيده‏:‏ إن سيدي لثقته بي ليس يعلم ما في بيته، وقد سلطني على جميع ما له، وليس في هذا البيت أعظم مني، ولم يمنعني شيئاً ما خلاك أنت لأنك امرأته، فكيف أرتكب هذا الشر العظيم، فأخطئي بين يدي الله، وإذا كانت تراوده كل يوم لم يطعها ليضاجعها ويصير معها، فبينا هو ذات يوم دخل يوسف إلى البيت ليعمل عملاً، ولم يكن أحد من أهل البيت هناك، فتعلقت بقميصه وقالت له‏:‏ ضاجعني، فترك قميصه في يدها وهرب، فخرج إلى السوق، فلما رأت أنه قد ترك قميصه في يدها وخرج هارباً إلى السوق، دعت بأهل بيتها وقالت لهم‏:‏ انظروا، إنه أتانا رجل عبراني ليفضحنا، لأنه دخل عليّ يريد مضاجعتي، وهتفت بصوت عال، فلما رآني قد رفعت صوتي وهتفت، ترك قميصه في يدي وهرب إلى السوق‏.‏

فصيرت قميصه عندها حتى دخل سيدها البيت، فقالت‏:‏ له مثل هذه الأقاويل‏:‏ دخل عليّ هذا العبد العبراني الذي جلبته علينا يريد يفضحني، فلما رفعت صوتي فصحت ترك قميصه في يدي وهرب فخرج إلى السوق؛ فلما سمع سيده كلام امرأته استشاط غيظاً، فأمر به سيده فقذف في الحبس الذي كان أسرى الملك فيه محبوسين فمكث هناك في السجن، وكان الرب يبصره، ورزقه المحبة والرحمة، وألقى له في قلب السجان رحمة، فولى يوسف جميع المسجونين الذين في الحبس، وكل فعل كانوا يفعلونه هناك كان عن أمره، ولم يكن رئيس السجن يضرب على يديه في شيء، لأن الرب كان بعونه معه، وكل شيء كان يفعله ينجحه الرب‏.‏

فلما كان بعد هذه الأمور، أذنب صاحب شراب ملك مصر والخباز- وفي نسخة موضع الخباز‏:‏ ورئيس الطباخين- بين يدي سيدهما ملك مصر، فغضب فرعون على خادميه‏:‏ على رئيس أصحاب الشراب ورئيس الخبازين- وفي نسخة‏:‏ الطباخين- فأمر بحبسهما في سجن صاحب الشرط في الحبس الذي كان فيه يوسف، فسلط صاحب السجن يوسف عليهما فخدمهما، فلبثا في السجن أياماً، فرأيا رؤيا جميعاً، كل واحد منهما رئيا بكل في ليلة واحدة، وكل واحد منهما أحب تعبير حلمه،‏:‏ الساقي وخباز- وفي نسخة‏:‏ وطباخ- ملك مصر، فدخل عليهما يوسف بالغداة، فرآهما عابسين مكتئبين فسألهما وقال‏:‏ ما بالكما يومكما هذا عابسي مكتئبين‏؟‏ فقالا له‏:‏ إنا رأينا رؤيا وليس لها معبر، فقال لهما يوسف‏:‏ إن علم التعبير عند الله، قصا عليّ‏.‏

فقص رئيس أصحاب الشراب على يوسف وقال له‏:‏ إني رأيت في الرؤيا كأن حبلة بين يدي، في الحبلة ثلاثة قضبان، فبينا هي كذلك إذ فرعت ونبت ورقها، وأينعت عناقيدها، فصارت عنباً، وكأن كأس فرعون في يدي، فتناولت من العنب، فعصرته في كأس فرعون، وناولت الكأس فرعون، فقال له يوسف عليه السلام‏:‏ هذا تفسير رؤياك‏:‏ الثلاثة قضبان هي ثلاثة أيام، ومن بعد ثلاثة أيام يذكرك فرعون فيردك على عملك، وتناول فرعون الكأس في يده على العادة الأولى التي لم تزل تسقيه، فاذكرني حينئذ إذا أنعم عليك، وأنعم عليّ بالنعمة والقسط، فاذكرني بين يدي فرعون، وأخرجني من هذا الحبس، لأني إنما سرقت من أرض العبرانين سرقة، وحصلت في الحبس هاهنا أيضاً بلا جرم جاء مني‏.‏ فرأى رئيس الخبازين- وفي نسخة‏:‏ الطباخين- أنه قد فسر تفسيراً حسناً فقال يوسف‏:‏ رأيت أنا أيضاً في منامي كأن ثلاثة أطباق فيها خبز درمك على رأسي، وفي الطبق الأعلى من كل مآكل فرعون مما يصنعه الخباز- وفي نسخة‏:‏ عمل طباخ حاذق- وكان السباع والطير تأكلها من الطبق من فوق رأسي؛ فأجاب يوسف وقال له‏:‏ هذا تفسير رؤياك‏:‏ ثلاثة أطباق هي ثلاثة أيام، وبعد ثلاثة أيام يأمر فرعون بضرب عنقك وصلبك على خشبة، ويأكل الطير لحمك‏.‏

فلما كان اليوم الثالث- وهو يوم ولاد فرعون- اتخذ فرعون وليمة، فجمع عبيده وافتقد رئيس أصحاب الشراب ورئيس الخبازين- وفي نسخة‏:‏ الطباخين- فأمر برد رئيس أصحاب الشراب على موضعه، وسقى فرعون الكأس كعادته، وأمر بصلب رئيس الخبازين كالذي فسر لهما يوسف عليهما الصلاة والسلام، فلم يذكر رئيس أصحاب الشراب يوسف عليه الصلاة والسلام ونسيه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏43- 44‏]‏

‏{‏وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ ‏(‏43‏)‏ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ ‏(‏44‏)‏‏}‏

ولما بطل هذا السبب الذي أمر به يوسف عليه الصلاة والسلام، وهو تذكير الشرابي به، أثار الله سبحانه سبباً ينفذ به ما أراد من رئاسته وقضى به من سجود من دلت عليه الكواكب فقال دالاً على ذلك‏:‏ ‏{‏وقال الملك‏}‏ وهو شخص قادر واسع المقدور إليه السياسه والتدبير، لملاه وهم السحرة والكهنة والحزرة والقافة والحكماء، وأكد ليعلم أنه محق في كلامه غير ممتحن‏:‏ ‏{‏إني أرى‏}‏ عبر بالمضارع حكاية للحال لشدة ما هاله من ذلك ‏{‏سبع بقرات سمان‏}‏ والسمن‏:‏ زيادة البدن من اللحم والشحم ‏{‏يأكلهن سبع‏}‏ أي بقرات ‏{‏عجاف‏}‏ والعجف‏:‏ يبس الهزال ‏{‏و‏}‏ إني أرى ‏{‏سبع‏}‏‏.‏

ولما كان تأويل المنام الجدب والقحط والشدة، أضاف العدد إلى جمع القلة بخلاف ما كان في سياق المضاعفة في قوله ‏{‏أنبتت سبع سنابل‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 261‏]‏ فقال‏:‏ ‏{‏سنبلات خضر و‏}‏ إني أرى سبع سنبلات ‏{‏أخر يابسات‏}‏ التوت على الخضر فغلبت عليها، وكأنه حذف هذا لدلالة العجاف عليه؛ والسنبلة‏:‏ نبات كالقصبة حملة حبوب منتظمة، وكأنه قيل‏:‏ فكان ماذا‏؟‏ فقيل‏:‏ قال الملك‏:‏ ‏{‏ياأيها الملأ‏}‏ أي الأشراف النبلاء الذين تملأ العيون مناظرهم والقلوب مخابرهم ومآثرهم ‏{‏أفتوني‏}‏ أي أجيبوني وبينوا لي كرماً منكم بقوة وفهم ثاقب‏.‏

ولما كان مراده أن لا يخرجوا بالجواب عن القصد ولا يبعدوا به، عبر بما يفهم الظرف فقال‏:‏ ‏{‏في رؤياي‏}‏ ومنعهم من الكلام بغير علم بقوله‏:‏ ‏{‏إن كنتم للرؤيا‏}‏ أي جنسها ‏{‏تعبرون *‏}‏ وعبارة الرؤيا‏:‏ تأويلها بالعبور من علنها إلى سرها كما تعبر، من عبر النهر- أي شطه- إلى عبره الآخر، ومثله أولت الرؤيا- إذا ذكرت مالها ومرجعها المقصود بضرب المثال‏.‏

والمادة- بتراكيبها الستة‏:‏ عرب، وعبر، ورعب، وربع، وبعر، وبرع- تدور على الجواز من محل إلى محل ومن حال إلى حال، وأكثر ذلك إلى أجود، فالعرب سموا لأن مبنى أمرهم على الارتحال لاستجادة المنازل، وأعرب- إذا أفصح، أي تكلم بكلام العرب فأبان عن مراده، أي أجازه من العجمة والإبهام إلى البيان، وأعرب الفرس- إذا خلصت عربيته، فكأنه جاز مرتبة الهجن إلى العرب، وكذا الإبل العراب، والعروبة‏:‏ يوم الجمعة- لعلو قدرها عن بقية الأيام، والعروب‏:‏ المرأة الضاحكة العاشقة لزوجها المتحببه إليه المظهرة له ذلك، وهي أيضاً العاصية لزوجها- لأن كل ذلك أفعال العرب، فهم أعشق الناس وأقدرهم على الاستمالة بالكلام العذب، وهم أعصى الناس وأجفاهم إذا أرادوا، والعرب- ويحرك‏:‏ النشاط- لأنه انتقال عن الكسل، وقد عرب- كفرح- إذا نشط وإذا ورم، لأن الوارم يتجاوز هيئة غيره، وعربت البئر‏:‏ كثر ماءها فارتفع، وعرب- كضرب‏:‏ أكل، والعربة، محركة‏:‏ النهر الشديد الجري، والنفس- لكثرة انتقالها بالفكر، والعربون‏:‏ ما عقد به المبايعة من الثمن، فنقل السلعة من حال إلى حال، واستعربت البقر‏:‏ اشتهت الفحل، إما من العروب العاشقة لزوجها، وإما لنقل الشهوة لها من حال إلى أخرى، وتعرب‏:‏ أقام بالبادية، مع الأعراب الذين لا يوطنون مكاناً، وإنما هم مع الربيع، وعروباء‏:‏ اسم السماء السابعة- لارتفاعها عن جميع السماوات، فكأنها جازت الكل، ولأن حركتها حركة للكل، والعرب- بالكسر‏:‏ يبيس البهمي، لأنه صار أهلاً للنقل ولو بتطيير الهواء، والعربي‏:‏ شعير أبيض سنبله حرفان- كأنه نسب إلى العرب لجودته، والإعراب‏:‏ إجراء الفرس ومعرفتك بالفرس العربي من الهجين- لانتقال حال الجهل بذلك إلى حال العلم، وأن لا يلحن في الكلام- كأنه انتقل بذلك من العجمة إلى العربية، وعرب الرجل- بالكسر- إذا أتخم، وكذا الفرس من العلف، ومعدته‏:‏ فسدت، وجرحه‏:‏ بقي به أثر بعد البرء، كل ذلك ناقل من حال إلى غيرها، والتعريب‏:‏ تهذيب المنطق من اللحن- كأنه رفع نفسه إلى العرب، وقطع سعف النخل- لأنه نقلها عن حالها إلى أصلح منه، وأن تكون الدابة على أشاعرها ثم تبزع بمبزع، والتعريب أيضاً والإعراب‏:‏ ما قبح من الكلام، وتقبيح قول القائل كأنه حكم بزوال عربيته، وهما أيضاً الرد عن القبيح، وذلك إدخاله في خصال العرب التي هي معالي الأخلاق، وهما أيضاً النكاح، أو التعريض به لأن نقله من حال إلى حال وفعل إلى فعل قولاً وعملاً، والتعريب‏:‏ الإكثار من شرب الماء الصافي، واتخاذ فرس عربي، وسما بها عريب، أي أحد يعرب؛ وعبر الرؤيا- إذا فسرها وأخبر بما يؤول إليه أمرها، كأنه جاز ظاهرها إلى بطن منها، وعبرت الكتاب أعبره عبراً‏:‏ تدبرته ولم ترفع به صوتك، وعبرت النهر‏:‏ قطعته من عبره- أي شطه- إلى عبره، والعبر أيضاً‏:‏ الجانب، لأنه يعبر منه وإليه، والمعبر‏:‏ سفينة يعبر عليها النهر وشط هيئ للعبور، وعبر القوم‏:‏ ماتوا، والعبرة- بالكسر‏:‏ العجب، وبالفتح‏:‏ الدمعة قبل أن تفيض- كأن لها قوة الجري، أو هي تردد البكاء في الصدر أو الحزن بلا بكاء، لأن ذلك مبدأ جري الدمع؛ وفي مختصر العين‏:‏ وعبرة الدمع‏:‏ جريه، والعبرة‏:‏ الدمع نفسه‏.‏

والعبر- بالضم ويحرك‏:‏ سخة العين، والكثير من كل شيء، وبالجماعة- لأن ذلك جوازعن حد القلة، ولأنهم يجيزون ما شاؤوا، ومجلس عبر- بالكسر والفتح‏:‏ كثير الأهل- من ذلك، وأيضاً هو أهل لأن يعبر بجماعته من حال إلى حال، وبامرأة مستعبرة- وتفتح الباء‏:‏ غير محظية، أي هي أهل لجري العبرة، وناقة عبر أسفار- مثلثة قوية، وعبرت عن الرجل فتكلمت عنه- كأنك عبرت من خاطره إلى خاطر المخاطب، وعبرت الدنانير تعبيراً‏:‏ وزنتها ولم تبالغ في وزنها- كأنك عبرت من الجهل بمقدارها إلى الظن، أو عابر سبيل، أحي مار؛ والشعري‏:‏ العبور‏:‏ نجم خلف الجوزاء، والعبور‏:‏ الجذعة من الغنم- لأنها جازت سنة وتأهلت العبور مع الغنم وكانت في عدادها، والعبور‏:‏ لأقلف- لأن كمرته عابرة في قلفته، وغلام معبر‏:‏ لم يختن، ورجل عبر‏:‏ كاد أن يحتلم ولم يختن بعد، أي كاد أن يصير إلى خذ البالغين على هذه الحال، وهي أن كمرته عابرة في قلفته، وعبر به الأمر تعبيراً‏:‏ اشتد عليه- كأنه جاز من حالة الرخاء إلى الشدة وعبرت به أهلكته، والمعبرة- بالتخفيف‏:‏ ناقة لم تنتج ثلاث سنين، فيكون أصلب لها- لأنها صارت أهلاً لأن يعبر عليها في الأسفار، والعبير ضرب من الطيب- لعبور ريحه، والزعفران- لعبور لونه وريحه، والعبرى‏:‏ السدر النهري- لنباته في عبر النهر، والمعبر من الجمال‏:‏ الكثير الوبر، ومن الشاء‏:‏ التي لم تجز- كأنه لجواز الصوف عن حد جلدهما، وسهم معبر وعبير‏:‏ كثير الريش- كأنه عبر عن حد العادة، والعبر- بالضم‏:‏ الثكلى، لأنها أهل لإرسال العبرة، والسحاب التي تسير شديداً، والعقاب- لقوتها على قطع المسافات، ونبات عبر‏:‏ الكذب والباطل- لسرعة زواله؛ ورعبت فلاناً‏:‏ أفزعته، فهو مرعوب- لأنك أجزته من الأمن إلى الخوف، وسيل راعب‏:‏ أي يملأ الوادي، وراعب‏:‏ أرض، منها الحمام الراعبية، والحمام أيضاً لها قوة العبور بالرسائل من مكان إلى مكان، ورعبت الحمامة في صوتها ترعيباً‏:‏ رفعته، ورعبت السنام‏:‏ قطعته، والرعبوبة‏:‏ قطعة منه- لأنها جازت مكانها، وجارية رعبوبة ورعبوب‏:‏ حسنة القوام تامة- كأنها جازت أقرانها حسناً، والرعب‏:‏ القصار، واحدهم رعيب وأرعب، تشبيه بالقطعة من السنام؛ والبعر‏:‏ رجيع الخف والظلف إلا البقر الأهلية، لأنها تخثى، والوحشية تبعر بعراً- لأنه يجوز من مكانه من غير أن يلوثه، فلا يبقى منه به شيء، والمعبر، مكانه، والبعير‏:‏ الجمل البازل أو الجذع، وقد يكون الحمار وكل ما يحمل؛ وفي مختصر العين‏:‏ وإذا رأت العرب ناقة أو جملاً من بعيد قالوا‏:‏ هذا بعير، فإذا عرفوا قالوا للذكر‏:‏ جمل، وللأنثى‏:‏ ناقة، والبعرة- بالتحريك‏:‏ الكمرة، تشبيهاً بها، والربع‏:‏ المنزل والدار بعينها، والمحلة- لأنها يخرج منها ويدخل إليها، ولذلك سميت متبوأ، لأنها يتبوأ إليها، أي يرجع، وربع يربع‏:‏ أقام، وأربع على نفسك‏:‏ انتظر، كأنه من الربع، أي المنزل، لأنه يقام فيه‏:‏ وربع- إذا أخصب- للانتقال من حال إلى حال أخرى، وهم على ربعاتهم، أي استقامتهم وأمرهم الأول- كأنه من المنزل، والروبع- كجوهر‏:‏ الضعيف الدنيء- كأن ذلك يلزم من الإقامة في المنزل، وبهاء‏:‏ قصير العرقوب، والرجل القصير- كأنه تشبيه بالربعة في مطلق القصر عن الطويل، وربع الحجر‏:‏ رفعه، والحمل‏:‏ رفعه على الدابة، والمربوع‏:‏ المنعوش المنفس عنه- لتحول الحال في كل ذلك، والمربعة‏:‏ خشبة يرفع بها العدل، والمرابعة‏:‏ أن تأخذ يد صاحبك وترفعا الحمل على الدابة- كأنه مع النقل مأخوذ من الأربعة، وهي أيضاً المعادلة بالربيع، ومنه تربعت الناقة سناماً طويلاً، أي حملته، وربيع الشهور‏:‏ شهران بعد صفر، وربيع الفصول اثنان الذي فيه النور والكمأة، والذي تدرك فيه الثمار- للانتقال في كل منهما، والربع- كصرد‏:‏ الفصيل ينتج في الربيع، وناقة مربع‏:‏ ذات ربع، وأربع القوم‏:‏ صاروا أربعة، ودخلوا في الربيع، وأقاموا في المربع، وربعت الأرض‏:‏ أصابها مطر الربيع، والمرابيع‏:‏ الأمطار أول الربيع، وأربع الرجل- إذا ولد له في شبابه، تشبيهاً للشباب بالربيع، وناقة مرباع- إذا كانت عادتها أن تنتج في ربعية القيظ، والربعية‏:‏ أول الشتاء، والربيع‏:‏ الجدول- لجريه وإنبات ما حوله، وجمعه أربعاء، والحجر يشيلونه لتجربة القوى، والرابع تلو الثالث- لأنه جاز الجمع، ووتر وحبل مربوع‏:‏ مفتول على أربع قوى، وربعتُ القوم أربعهم‏:‏ صرت رابعهم، والأربعاء‏:‏ يوم، والمرباع‏:‏ ربع الغنيمة الذي كان يأخذه الرئيس، والرباعية- كثمانية‏:‏ السن بين الثنية والناب، وعدتها أربع، وكل ما بلغ الأربعة رباع كثمان، ويقول للغنم في الرابعة وللبقر والحافر في الخامسة وللخف في السابعة‏:‏ أربعت، كأنه لا يجوز في كل نوع من حد الصغر إلى الكبر إلا بذلك، وأربع الفرس‏:‏ ألقى رباعيته، وحمى ربع‏:‏ تأتي في اليوم الرابع، وقد ربع الرجل وأربع، وهو معنى ما قال في القاموس‏:‏ وربعته الحمى‏:‏ أخذته الحمى يوماً بعد يومين، لأن يومها الثاني هو رابع يومها الأول، والربعة- بالفتح‏:‏ جونة العطار- لتضوع ريحها، والرجل بين الطويل والقصير- ويحرك- كالمربوع، لجوازه حد كل منهما، هذا إلى الطول، وهذا إلى القصر، وارتبع‏:‏ صار ربعة، والربعة- محركة‏:‏ أشد عدو الإبل، والمسافة بين أثافي القدر- لعبور كل منهما عن محل صاحبتها، وأربع ماء الركية‏:‏ كثر، فجاز عن محله الأول، وعلى فلان‏:‏ سأله ثم ذهب ثم عادوه، وعلى المرأة‏:‏ كر إلى جماعها، والقوم إبلهم مكان كذا‏:‏ رعوها وأرسلوها على الماء ترد متى شاءت، ويجوز أن يكون هذا أيضاً من الربيع، وأربعت الناقة- إذا استغلقت رحمها فلم تقبل الماء، كأنها أزالت العبور، أي الانتقال من حال إلى أخرى، والربيعة‏:‏ البيضة من السلاح- لنقلها صاحبها إلى الحصانة، والروضة- لجواز النبت فيها عن حد الأرض، والمربع‏:‏ شراع السفينة- لأنه آلة السير، والمربع‏:‏ الرجل الكثير النكاح- لعبوره عن حالة الأولى، ولجلوسه بين الشعب الأربع، وتربع في جلوسه ضد جثا، إما لأنه صار على شكل المربع، وإما أخذا من الربع إلى المنزل، لأنها جلسة المقيم في منزله، وتربعت النخيل‏:‏ خرقت وصرمت- لتحول حالها، واستربع الرمل‏:‏ تراكم، إما لجوازه عن حاله الأولى، وإما من الإقامة في الربع، واستربع الغبار، ارتفع، والبعير للمسير‏:‏ قوى عليه وصبر، والرجل بالأمر‏:‏ استقل وصبر، وفلان يقيم رباعة قومه، أي شأنهم وحالهم أي يجيزهم من حال إلى أخرى، ومضى من بني فلان ربوع بعد ربوع، أي أحياء بعد أحياء، إما لأن ذلك جواز من دار إلى دار وحال إلى حال، وإما على حذف مضاف، أي أهل ربوع منازل، واليربوع‏:‏ دابة كالفأرة، إما لشدة جريها، وإما لجعلها نافقاءين تهرب من أيهما شاءت، فهي عبارة منتقلة بالقوة وإن كانت ساكنة، واليربوع‏:‏ لحمة المتن- كأنه مشبه بالدابة؛ وبرع الرجل- مثلثة‏:‏ فاق أصحابه في علم أو غيره، أو تم في كل فضيلة وجمال، وهذا أبرع منه‏:‏ أضخم- لأنه جاز مقداره، والبارع‏:‏ الأصيل الجيد الرأي، وتبرع بالعطاء‏:‏ تفضل بما لا يجب عليه من عند نفسه كأنه جاز رتبة الواجب- والله أعلم‏.‏

وفي الآية ما يوجبه حال العلماء من حاجة الملوك إليهم، فكأنه قيل‏:‏ فما قالوا‏؟‏ فقيل‏:‏ ‏{‏قالوا‏}‏ هذه الرؤيا ‏{‏أضغاث‏}‏ أي أخلاط، جمع ضغث- بكسر الضاد وإسكان الغين المعجمة، وهو قبضه حشيش مختلطة الرطب باليابس ‏{‏أحلام‏}‏ مختلفة مشتبهة، جمع حلم- بضم الحاء وإسكان اللام وضمه، وهو الرؤيا- فقيدوها بالأضغاث، وهو ما يكون من الرؤيا باطلاً- لكونه من حديث النفس أو وسوسة الشيطان، لكونها تشبه أخلاط النبات التي لا تناسب بينها، لأن الرؤيا تارة تكون من الملك وهي الصحيحة، وتارة تكون من تحريف الشيطان وتخليطاته، وتارة من حديث النفس؛ ثم قالوا‏:‏ ‏{‏وما نحن‏}‏ أي بأجمعنا ‏{‏بتأويل‏}‏ أي ترجيع ‏{‏الأحلام‏}‏ أي مطلق الأضغاث وغيرها، وأعرقوا في النفي بقولهم‏:‏ ‏{‏بعالمين *‏}‏ فدلسوا من غير وجه، جمعوا- وهي حلم واحد- ليجعلوها أضغاثاً لا مدلول لها، ونفوا عن أنفسهم «العلم المطلق» المستلزم لنفي «العلم بالمقيد» بعد أن أتوا بالكلام على هذه الصورة، ليوهموا أنهم ما جهلوها إلا لكونها أضغاثاً- والله أعلم؛ والقول‏:‏ كلام متضمن بالحكاية في البيان عنه، فإذا ذكر أنه قال، اقتضى الحكاية لما قال، وإذا ذكر أنه تكلم، لم يقتض حكاية لما تكلم به، ومادة «حلم» بجميع تقاليبها تدور على صرف شيء عن وجهه وعادته وما تقتضيه الجبلة- كما يأتي في الرعد في قوله‏:‏ ‏{‏شديد المحال‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 13‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏45- 47‏]‏

‏{‏وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ ‏(‏45‏)‏ يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ ‏(‏46‏)‏ قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ ‏(‏47‏)‏‏}‏

ولما كان هذا حالاً مذكراً للساقي بيوسف عليع الصلاة والسلام- أخبر سبحانه بأنه ذكره بعد نسيانه، فقال عادلاً عن الفاء إيذاناً بأنه من الملا‏:‏ ‏{‏وقال الذي نجا‏}‏ أي خلص من الهلاك ‏{‏منهما‏}‏ أي من صاحبي السجن، وهو الساقي ‏{‏و‏}‏ الحال أنه ‏{‏ادكر‏}‏- بالمهملة، أي طلب الذكر- بالمعجمة، وزنه افتعل ‏{‏بعد أمة‏}‏ من الأزمان، أي أزمان مجتمعة طويلة ‏{‏أنا أنبئكم‏}‏ أي أخبركم إخباراً عظيماً ‏{‏بتأويله‏}‏ أي بتفسير ما يؤول إليه معنى هذا الحلم وحده كما هو الحق، وسبب عن كلامه قوله‏:‏ ‏{‏فأرسلون *‏}‏ أي إلى يوسف عليه الصلاة والسلام فإنه أعلم الناس، فأرسلوه إليه؛ قال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ ولم يكن السجن في المدينة، فأتاه فقال الساقي المرسل بعد وصوله إليه منادياً له بالنداء القرب تحبباً إليه‏:‏ ‏{‏يوسف‏}‏ وزاد في التحبب بقوله‏:‏ ‏{‏أيها الصديق‏}‏ أي البليغ في الصدق والتصديق لما يحق تصديقه بما جربناه منه ورأيناه لائحاً عليه ‏{‏أفتنا‏}‏ أي اذكر لنا الحكم ‏{‏في سبع‏}‏ وميز العدد بجمع السلامة الذي هو للقلة- كما مضى لما مضى- فقال‏:‏ ‏{‏بقرات سمان‏}‏ أي رآهن الملك ‏{‏يأكلهن سبع‏}‏ أي من البقر ‏{‏عجاف‏}‏ أي مهازيل جداً ‏{‏و‏}‏ في ‏{‏سبع سنبلات‏}‏ جمع سنبلة، وهي مجمع الحب من الزرع ‏{‏خضر و‏}‏ في سبع ‏{‏أخر‏}‏ أي من السنابل ‏{‏يابسات‏}‏ وساق جواب السؤال سياق الترجي إما جرياً على العوائد العقلاء في عدم البتّ في الأمور المستقبلة، وإما لأنه ندم بعد إرساله خوفاً من أن يكون التأويل شيئاً لا يواجه به الملك، فعزم على الهرب- على هذا التقدير، وإما استعجالاً ليوسف عليه الصلاة والسلام بالإفتاء ليسرع في الرجوع، فإن الناس في غاية التلفت إليه، فقال‏:‏ ‏{‏لعلي أرجع إلى الناس‏}‏ قبل مانع يمنعني‏.‏

ولما كان تصديقهم ليوسف عليه الصلاة والسلام وعلمهم بعد ذلك بفضله وعملهم بما أمرهم به مظنوناً، قال‏:‏ ‏{‏لعلهم يعلمون *‏}‏ أي ليكونوا على رجاء من أن يعلموا فضلك أو ما يدل ذلك عليه من خير أو شر فيعلموا لكل حال ما يمكنهم عمله، فكأنه قيل‏:‏ فما قال له‏؟‏ فقيل‏:‏ ‏{‏قال‏}‏‏:‏ تأويله أنكم ‏{‏تزرعون‏}‏ أي توجدون الزراعة‏.‏ فهو إخبار بمغيب، فهو أقعد في معنى الكلام، ويمكن أن يكون خبراً بمعنى الأمر ‏{‏سبع سنين دأباً‏}‏ أي دائبين مجتهدين- والدأب‏:‏ استمرار الشيء على عادته- كما أشارت إليه رؤياك بعصر الخمر الذي لا يكون إلا بعد الكفاية، ودلت عليه رؤيا الملك للبقرات السمان والسنابل الخضر، والتعبير بذلك يدل على أن هذه السبع تكون- كما تعرفون- من أغلب أحوال الزمان في توسطه بخصب أرض وجدب أخرى، وعجز الماء عن بقعة وإغراقه لأخرى- كما أشار إليه الدأب‏:‏ ثم أرشدهم إلى ما يتقوون به على ما يأتي من الشر، فقال‏:‏ ‏{‏فما حصدتم‏}‏ أي من شيء بسبب ذلك الزرع- والحصد‏:‏ قطع الزرع بعد استوائه- في تلك السبع الخصبة ‏{‏فذروه‏}‏ أي اتركوه على كل حال ‏{‏في سنبله‏}‏ لئلا يفسد بالسوس أو غيره ‏{‏إلا قليلاً مما تأكلون‏}‏ قال أبو حيان‏:‏ أشار برأي نافع بحسب طعام مصر وحنطتها التي لا تبقى عامين بوجه إلا بحيلة إبقائها في السنبل- انتهى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏48- 51‏]‏

‏{‏ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ ‏(‏48‏)‏ ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ ‏(‏49‏)‏ وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ ‏(‏50‏)‏ قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآَنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ‏(‏51‏)‏‏}‏

ولما أتم المشورة، رجع إلى بقية عبارة الرؤيا، فقال‏:‏ ‏{‏ثم يأتي‏}‏ ولما كانت مدة الإتيان غير مستغرقة لزمان البعد، أتى بالجار فقال‏:‏ ‏{‏من بعد ذلك‏}‏ أي الأمرالعظيم، وهي السبع التي تعملون فيها هذا العمل ‏{‏سبع‏}‏ أي سنون ‏{‏شداد‏}‏ بالقحط العظيم، وهن ما أشارت إليه رؤيا صاحبك الذي طار برزقه الطيور، وسار بروحه غالب المقدور، ودلت عليه رؤيا الملك من البقرات العجاف والسنابل اليابسات ‏{‏يأكلن‏}‏ أسند الأكل إليهن مجازاً عن أكل أهلهن تحقيقاً للأكل ‏{‏ما قدمتم‏}‏ أي بالادخار من الحبوب ‏{‏لهن‏}‏ والتقديم‏:‏ التقريب إلى جهة القدام، وبشرهم بأن الشدة تنقضي ولم يفرغ ما أعدوه، فقال‏:‏ ‏{‏إلا قليلاً مما تحصنون *‏}‏ والإحصان‏:‏ الإحراز، وهو إلقاء الشيء فيما هو كالحصن المنيع- هذا تعبير الرؤيا، ثم زادهم على ذلك قوله‏:‏ ‏{‏ثم يأتي‏}‏ وعبر بالجار لمثل ما مضى فقال‏:‏ ‏{‏من بعد ذلك‏}‏ أي الجدب العظيم ‏{‏عام‏}‏ وهو اثنا عشر شهراً، ونظيره الحول والسنة، وهو مأخوذ من العلوم- لما لأهله فيه من السبح الطويل- قاله الرماني‏.‏ والتعبير به دون مرادفاته إشارة إلى أنه يكون فيه- من السعة بعموم الريّ وظهور الخصب وغزير البركة- أمر عظيم، ولذا اتبعه بقوله‏:‏ ‏{‏فيه‏}‏‏.‏

ولما كان المتشوف إليه الإغاثة، على أنه من المعلوم أنه لا يقدر عليها إلا الله، قال بانياً للمفعول‏:‏ ‏{‏يغاث الناس‏}‏ من الغيث وهو المطر، أو من الغوث وهو الفرج، ففي الأول يجوز بناءه من ثلاثي ومن رباعي، يقال غاث الله الأرض وأغاثها‏:‏ أمطرها، وفي الثاني هو رباعي خاصة، يقال‏:‏ استغاث به فأغاثه، من الغوث وهو واوي، ومعناه النفع الذي يأتي على شدة حاجته بنفي المضرة، والغيث يائي وهو المطر الذي يأتي في وقت الحاجة ‏{‏وفيه‏}‏ أي ذلك العام الحسن‏.‏

ولما كان العصر للأدهان وغيرها لا يكون إلا عن فضله، قال‏:‏ ‏{‏يعصرون *‏}‏ أي يخرجون عصارات الأشياء وخلاصاتها، وكأنه أخذ من انتهاء القحط ابتداء الخصب الذي دل عليه العصر في رؤيا السائل، والخضرة والسمن في رؤيا الملك فإنه ضد القحط، وكل ضدين انتهاء أحدهما ابتداء الآخر لا محالة، فجاء الرسول فأخبر الملك بذلك، فأعجبه ووقع في نفسه صدقه ‏{‏وقال الملك‏}‏ أي الذي العزيز في خدمته ‏{‏ائتوني به‏}‏ لأسمع ذلك منه وأكرمه، فأتاه الرسول ليأتي به إلى الملك ‏{‏فلما جاءه‏}‏ أي يوسف عليه الصلاة والسلام عن قرب من الزمان ‏{‏الرسول‏}‏ بذلك وهو الساقي ‏{‏قال‏}‏ له يوسف‏:‏ ‏{‏ارجع إلى ربك‏}‏ أي سيدك الملك ‏{‏فاسأله‏}‏ بأن تقول له مستفهماً ‏{‏ما بال النسوة‏}‏ ولوح بمكرهن به ولم يصرح، ولا ذكر امرأة العزيز كرماً وحياء فقال‏:‏ ‏{‏التي قطعن أيديهن‏}‏ أي ما خبرهن في مكرهن الذي خالطني، فاشتد به بلائي فإنهن يعلمن أن امرأة العزيز ما دعتهن إلا بعد شهادتهن بأنها راودتني، ثم اعترفت لهن بأنها راودتني، وأني عصيتها أشد عصيان، فإذا سألهن بان الحق، فإن ربك جاهل بأمرهن‏.‏

ولما كان هذا موطناً يسأل فيه عن علم ربه سبحانه لذلك، قال مستأنفاً مؤكداً لأنهم عملوا في ذلك الأمر بالجهل عمل المكذب بالحساب الذي هو نتيجة العلم‏:‏ ‏{‏إن ربي‏}‏ أي المدبر لي والمحسن إلي بكل ما أتقلب فيه من شدة ورخاء ‏{‏بكيدهن‏}‏ لي حين دعونني إلى طاعة امرأة العزيز ‏{‏عليم *‏}‏ وأنا لا أخرج من السجن حتى يعلم ربك ما خفي عنه أمرهن الذي علمه ربي، لتظهر براءتي على رؤوس الأشهاد مما وصموني به من السجن الذي من شأنه أن لا يكون إلا عن جرم، وإن لم تظهر براءتي لم ينقطع عني كلام الحاسدين، ويوشك أن يسعوا في حط منزلتي عند الملك، ولئلا يقولوا‏:‏ ما لبث هذا السجن إلا لذنب عظيم فيكون في ذلك نوع من العار لا يخفى، وفي هذا دليل على أن السعي في براءة العرض حسن، بل واجب، وأخرج الكلام على سؤال الملك عن أمرهن- لا على سؤاله في أن يفحص عن أمرهن- لأن سؤال الإنسان عن علم ما لم يعلم يهيجه ويلهبه إلى البحث عنه، بخلاف سؤاله في أن يفتش لغيره، ليعلم ذلك الغير، فأراد بذلك حثه لأن يجدّ في السؤال حتى يعلم الحق، ليقبل بعد ذلك جميع ما حدثه به؛ والكيد‏:‏ الاحتيال في إيصال الضرر‏.‏

وإنما فسرت «بال» بذلك لأن مادته- يائية بتراكيبها الخمسة‏:‏ بلى، وبيل، ولبى، وليب، ويلب، وواوية بتراكيبها الستة‏:‏ بول، وبلو، وولب، ووبل، ولوب، ولبو، ومهموزة- بتراكيبها الأربعة‏:‏ لبأ، وبأل، وأبل وألب- تدور على الخلطة المحيلة المميلة، وكأن حقيقتها البلاء بمعنى الاختبار والامتحان والتجربة، ويكون في الخير والشر، أي خالطه بشيء يعرف منه خفي أمره؛ قال القزاز‏:‏ والفتنة تكون في الشر خاصة، والبلاء‏:‏ النعمة، من قولك‏:‏ أبليته خيراً- إذا اصطنعته عنده، وقد تقدم في سورة الأنفال شيء من معاني المادة، وناقة بلو سفر وبلى سفر- إذا أنضاها السفر، وإذا كانت قوية عليه، والبلوى‏:‏ البلية، وأبليت فلاناً عذراً، أي جئت فيما بيني وبينه ما لا لوم فيه، أي خالطته بشيء أزال اللوم، والبلية‏:‏ دابة كانت تشد في الجاهلية عند قبر صاحبها ولا تعلف ولا تسقي حتى تموت، ويقال‏:‏ الناس بذي بلى وبذي بليان، أي متفرقين، كأن حقيقته أنه حل بهم صاحب خلطة شديدة فرقت بينهم، وبلى الشيء- بالكسر بلى مقصوراً وبلاء ممدوداً- إذا فنى وعطب، وبلي فلان بكذا- مبنياً للمفعول، وابتلى به- إذا أصابه ذلك؛ والبول‏:‏ ولد الرجل، والعدد الكثير، والانفجار، وضد الغائط، ولا ريب أن كلاً من ذلك إذا خالطه الحيوان أحال حاله؛ والبال‏:‏ الاكتراث والفكر والهم، ومن ذلك عندي‏:‏ ما باليت به‏:‏ لم أكترث به، وكذا ما أباليه بالة، وهي مصدر منه، ولم أبال به، ولم أبل، ولكنهم قلبوه من‏:‏ باولت به، لئلا يلتبس بالبول- والله أعلم، وحقيقتهما‏:‏ ما استعملتُ بالي الذي هو فكري فيه وإن أعمل هو فكره في أمري، أي إنه أقل من أن يفكر في أمره، ومن المعلوم أن الفكر محل الخلطة المميلة، والبال‏:‏ المر الذي يعتمل به في أرض الزرع- لمشقة العمل به، والبال‏:‏ سمكة غليظة تسمى جمل البحر- لأن من خالطته أحالت أمره، والبال‏:‏ رخاء العيش، والحال، والبالة‏:‏ القارورة- كأنها من البول، والجراب، ووعاء الطيب، والولب‏:‏ الوصل، ولبت الشيء‏:‏ وصلته، وولب هو‏:‏ وصل ودخل وأسرع، والوالب‏:‏ الذاهب في وجهه- كأنه خالطه من الهم ما حمله على ذلك، وولب الزرع- إذا صارت له والبة، وهي أفراخ تولدت من أصوله، والوالبة‏:‏ نسل القوم، ونسل المال، والوالبة‏:‏ سريع النبات؛ ولاب يلوب- إذا عطش، واللابة‏:‏ الحرة، وهي مكان ذو حجارة سود كبيرة متصلة صلبة حسنة، فمن خالطها أتعبته وأعطشته، وبها سميت الإبل السود المجتمعة، والصمان، واللابة‏:‏ شقشقة البعير، وهي شيء كالرئة يخرجه البعير من فيه إذا هاج- كأنها هي التي أهاجته، والملاب‏:‏ ضرب من الطيب، والزعفران، والملوب- كمعظم- من الحديد‏:‏ الملوى، واللوب- بالضم‏:‏ البضعة التي تدور في القد- لأنها تغير ما في القدر بدورانها، واللواب أيضاً‏:‏ اللعاب، والأب‏:‏ عطشت إبله، واللبوة‏:‏ أنثى الأسد؛ والوابل‏:‏ المطر الكثير الشديد الوقع الضخم القطر، والوابلة‏:‏ نسل الإبل والغنم، ورأس العضد الذي في الحق، وما التف من لحم الفخذ، والموابلة‏:‏ المواظبة، والميبل‏:‏ ضفيرة من قد مركبة في عود تضرب به الإبل، ووبل الصيد‏:‏ طرد حثيث شديد، بالنعجة وبلة شديدة- إذا أرادت الفحل، والوبال‏:‏ الشدة وسوء العاقبة، وهو من الشدة والثقل، وأصابه وبل الجوع، أي جوع شديد، والوبيل‏:‏ المرعى الوخيم، واستوبلت الأرض- إذا لم توافقك في مطعمك وإن كنت محباً لها، وهي من الوبيل- للطعام الذي لا يشتهي، والوبيل من العقوبة‏:‏ الشديدة، وهو أيضاً العصا، وخشبة القصار التي يدق بها الثياب بعد الغسل، وخشبة صغيرة يضرب بها الناقوس، والحزمة من الحطب؛ وبلى‏:‏ حرف يجاب بها الاستفهام الداخل على كلام منفي فتحيله إلى الإثبات بخلاف «نعم» فإنه يجاب بها الكلام الموجب، وتأتي «بلى» في النفي من غير استفهام، يقال‏:‏ ما أعطيتني درهماً، فتقول‏:‏ بلى؛ ولبى من الطعام- كرضى‏:‏ أكثر منه، واللباية- بالضم‏:‏ شجر الأمطىّ؛ واللياب- بتقديم التحتانية وزن سحاب‏:‏ أقل من ملء الفم؛ واليلب- محركة‏:‏ الترسة، ويقال‏:‏ الدرق، والدروع من الجلود، أو جلود يخرز بعضها إلى البعض، تلبس على الرؤوس خاصة، والعظيم من كل شيء، والجلد؛ والأبيل- كأمير‏:‏ العصا، والحزين- بالسريانية، ورئيس النصارى، أو الراهب، أو صاحب الناقوس، صنيع مختصر العين يقتضي أن همزته زائدة، وصنيع القاموس أنها أصلية، وعلى كلا التقديرين هو من مدار المادة، فإن من خالطته العصا غيرته، وكذا الرئيس؛ ومن مهموزة اللبأ- كضلع‏:‏ أول اللبن، وهو أحق الأشياء بالإحالة، وألبأ الفصيل‏:‏ شدة إلى رأس الخلف- أي حلمة ضرع الناقة- ليرضع اللبأ، ولبأت وهي ملبئ‏:‏ وقع اللبأ في ضرعها، ولا يكون ذلك إلا بما يخالطها، فيحيل ذلك منها، واللبء- بالفتح‏:‏ أول السقي، وهو أشد مما في الأثناء في الخلطة والإحالة، وبهاء‏:‏ الأسدة، وخلطتها محيلة للذكور من نوعها، ولغيرها بالنفرة منها، وكذا اللبوة- بالواو، وعشار ملابي- كملاقح‏:‏ دنا نتاجها، وهو واضح في الإحالة‏:‏ ولبأت الشاة ولدها وألبأته‏:‏ أرضعته اللبأ، ولبأت الشاة والتبأتها‏:‏ حلبت لبأها؛ والبئيل- كأمير‏:‏ الصغير الضعيف، بؤل- ككرم، ويقال ضئيل بئيل؛ والإبل- بكسرتين وتسكن الباء- معروف، واحد يقع على الجمع، ليس بجمع ولا اسم جمع، جمعه آبال، الإحالة في خلطتها بالركوب والحمل وغيرهم واضحة، والإبل‏:‏ السحاب الذي يحمل ماء المطر، وهو ظاهر في ذلك، وتأبّل عن امرأته‏:‏ امتنع عن غشيانها- من الإزالة، ونسك‏:‏ أي امتنع عن خلطة الدنيا المحيلة، وبالعصا‏:‏ ضرب، ومن خالطته العصا أحالته، وأبل العشب أبولاً‏:‏ طال، فاستمكن منه الإبل، وهو ظاهر في الإحالة، والإبالة- كالإجانة‏:‏ القطعة من الطير والخيل والإبل أو المتتابعة منها، من نظر شيئاً من ذلك أحاله عن حاله، وكأمير‏:‏ العصا، ورئيس النصارى، أو الراهب، أو صاحب الناقوس، وكل ذلك واضح في الإحالة، والأبل- بالضم الباء‏:‏ الحزمة من الحشيش، وخلطتها محيلة لما يأكلها، والإبالة- ككتابة‏:‏ السياسة، وهي في غاية الإحالة لمن خولط بها، والأبلة- كفرحة‏:‏ الحاجة والطلبة، وهي معروفة في ذلك، والمباركة في الإبل، وإنه لا يأتبل‏:‏ لا يثبت على رعية الإبل ولا يحسن مهنتها، أو لا يثبت عليها راكباً، أي إنه سريع التأثر والإحالة من خلطتها، وتأبيل الإبل‏:‏ تسمينها، أي مخالطتها بما أحالها، والإبلة- بالكسر‏:‏ العداوة، وإحالتها معروفة، بالضم- العاهة، وهي كذلك، وبالفتح أو بالتحريك‏:‏ الثقل والوخامة والإثم كذلك، وتأبيل الميت‏:‏ تأبينه، أي الثناء عليه بعد موته، وهو يهيج الحزن عليه، وجاء في إبالته- بالكسر، وأبلته- بضمتين مشددة‏:‏ أصحابه، ولا شك أن من جاء كذلك أحال من أتاه، وضغث على إبالة كإجانة ويخفف‏:‏ بلية على أخرى، أو خصب على خصب- كأنه ضد، وهو واضح الإحالة، وأبلت الإبل تأبُل وتأبل أبولا وأبلا‏:‏ جزأت- أي اكتفت- بالرطب عن الماء، والرُطُب بضمتين‏:‏ الإخضر من البقل والشجر أو جماعة العشب الأخضر، والأبول‏:‏ الإقامة في المرعى، ولا شك في أن من خالطه ذلك أحاله؛ وألب إليه القوم‏:‏ أتوه من كل جانب، وذلك محيل، وألب الإبل‏:‏ ساقها، والإبل‏:‏ انساقت وانضم بعضها إلى بعض، والحمار طريدته‏:‏ طردها شديداً، وجمع، واجتمع، وأسرع، وعاد، والإحالة في كل ذلك ظاهرة، والسماء‏:‏ دام مطرها، أي فأحال الأرض وأهلها، والتألب كثعلب‏:‏ المجتمع منا ومن حمر الوحش والوعل، وهي بهاء، وما كان كذلك أحال ما خالطه، والإلب- بالكسر‏:‏ الفتر، وشجرة كالأترج سم، وذلك ظاهر في الإحالة، وبالفتح‏:‏ نشاط الساقي، وميل النفس إلى الهوى، والعطش، والتدبير على العدو من حيث لا يعلم، ومسك السخلة، والسم، والطرد الشديد، وشدة الحمى والحر، وابتداء برء الدمل، وكل ذلك ظاهر الإحالة، وريح ألوب‏:‏ باردة تسفي التراب، ورجل ألوب‏:‏ سريع إخراج الدلو، أو نشيط، فمن خالطه أحاله، وهم عليه ألب وإلب واحد‏:‏ مجتمعون عليه بالظلم والعداوة، وذلك محيل لا شك فيه، والإلبة بالضم‏:‏ المجاعة، وبالتحريك‏:‏ اليلبة، والتأليب‏:‏ التحريض والإفساد، وكل ذلك ظاهر في الإحالة، وكذا المئلب- للسريع، والألب‏:‏ الصفو، وهو محيل، والألب- بالتحريك‏:‏ اليلب، وقد مضى أنها الترسة- والله أعلم‏.‏

ولما قال يوسف عليه الصلاة والسلام ذلك وأبى أن يخرج من السجن قبل تبين الأمر، رجع الرسول إلى الملك فأخبره بما قال عليه الصلاة والسلام فكأنه قيل‏:‏ فما فعل الملك‏؟‏ فقيل‏:‏ ‏{‏قال‏}‏ للنسوة بعد أن جمعهن‏:‏ ‏{‏ما خطبكن‏}‏ أي شأنكن العظيم؛ وقوله‏:‏ ‏{‏إذ راودتن‏}‏ أي خادعتن بمكر ودوران ومراوغة ‏{‏يوسف عن نفسه‏}‏ دليل على أن براءته كانت متحققة عند كل من علم القصة، فكأن الملك وبعض الناس- وإن علموا مراودتهن وعفته- ما كانوا يعرفون المراودة هل هي لهن كلهن أو لبعضهن، فكأنه قيل‏:‏ ما قلن‏؟‏ فقيل‏:‏ مكرن في جوابهن إذ سألهن عما عملن من السوء معه فأعرضن عنه وأجبن بنفي السوء عنه عليه الصلاة والسلام، وذلك أنهن ‏{‏قلن حاش لله‏}‏ أي عياذاً بالملك الأعظم وتنزيهاً له من هذا الأمر، فأوهمن بذلك براءتهن منه؛ ثم فسرن هذا العياذ بأن قلن تعجباً من عفته التي لم يرين مثلها، ولا وقع في أوهامهن أن تكون لآدمي وإن بلغ ما بلغ‏:‏ ‏{‏ما علمنا عليه‏}‏ أي يوسف عليه الصلاة والسلام، وأعرقن في النفي فقلن‏:‏ ‏{‏من سوء‏}‏ فخصصنه بالبراءة، وهذا كما تقدم عند قول الملأ ‏{‏أضغاث أحلام‏}‏ هذا وهو جواب للملك الذي تبهر رؤيته وتخشى سطوته، فكان من طبع البلد عدم الإفصاح في المقال- حتى لا ينفك عن طروق احتمال فيكون للتفصي فيه مجال- وعبادة الملوك إلا من شاء الله منهم‏.‏

ولما تم ذلك، كان كأنه قيل‏:‏ فما قالت التي هي أصل هذا الأمر‏؟‏ فقيل‏:‏ ‏{‏قالت امرأت العزيز‏}‏ مصرحة بحقيقة الحال‏:‏ ‏{‏الآن حصحص الحق‏}‏ أي حصل على أمكن وجوهه، وانقطع عن الباطل بظهوره، من‏:‏ حص شعره‏.‏ إذا استأصل قطعه بحيث ظهر ما تحته، ومنه الحصة‏:‏ القطعة من الشيء، ونظيره‏:‏ كب وكبكب، وكف وكفكف، فهذه زيادة تضعيف، دل عليه الاشتقاق وهو قول الزجاج- قاله الرماني‏.‏ ووافقه الرازي في اللوامع وقال‏:‏ وقال الأزهري‏:‏ هو من حصحص البعير‏:‏ أثرت ثفناته في الأرض إذا برك حتى تستبين آثارها فيه ‏{‏أنا راودته‏}‏ أي خادعته وراودته ‏{‏عن نفسه‏}‏ وأكدت ما أفصحت به مدحاً ونفياً لكل سوء بقولها مؤكداً لأجل ما تقدم من إنكارها‏:‏ ‏{‏وإنه لمن الصادقين *‏}‏ أي العريقين في هذا الوصف في نسبة المراودة إليّ وتبرئة نفسه، فقد شهد النسوة كلهن ببراءته، وإنه لم يقع منه ما ينسب به شيء من السوء إليه، فمن نسب إليه بعد ذلك هماً أو غيره فهو تابع لمجرد الهوى في نبي من المخلصين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏52- 56‏]‏

‏{‏ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ ‏(‏52‏)‏ وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏53‏)‏ وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ ‏(‏54‏)‏ قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ‏(‏55‏)‏ وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏56‏)‏‏}‏

ولما انجلى الأمر، أمر الملك بإحضاره، ليستعين به فيما إليه من الملك، لكن لما كانت براءة الصديق أهم من ذلك- وهي المقصود من رد الرسول- قدم بقية الكلام فيها عليه، وليكون كلامه في براءته متصلاً بكلام النسوة في ذلك، والذي دل على أن ذلك كلامه ما فيه من الحكم التي لا يعرفها في ذلك الزمان غيره، فقال- بناء على ما تقديره‏:‏ فلما رجع الرسول إلى يوسف عليه الصلاة والسلام فأخبره بشهادتهن ببراءته قال-‏:‏ ‏{‏ذلك‏}‏ أي الخلق العظيم في تثبتي في السجن إلى أن تبين الحق ‏{‏ليعلم‏}‏ العزيز علماً مؤكداً ‏{‏أني لم أخنه‏}‏ أي في أهله ولا في غيرها ‏{‏بالغيب‏}‏ أي والحال أن كلاً منا غائب عن صاحبه ‏{‏و‏}‏ ليعلم بإقرارها وهي في الأمن والسعة، وتثبتي وأنا في محل الضيق والخوف ما من شأنه الخفاء عن كل من لم يؤيده الله بروح منه من ‏{‏إن الله‏}‏ أي الذي له الإحاطة بأوصاف الكمال ‏{‏لا يهدي‏}‏ أي يسدد وينجح بوجه من لوجوه ‏{‏كيد الخائنين‏}‏ أي العريقين في الخيانة، بل لا بد أن يقيم سبباً لظهور الخيانة وإن اجتهد الخائن في التعمية؛ والخيانة‏:‏ مخالفة الحق بنقض العهد العام‏.‏ وضدها الأمانة، والغدر‏:‏ نقضه خاصاً، والمعنى أني لما كنت بريئاً سدد الله أمري، وجعل عاقبتي إلى خير كبير وبراءة تامة، ولما كان غيري خائناً، أنطقه الله بالإقرار بها‏.‏

ولما كان ذلك ربما جر إلى الإعجاب، قال‏:‏ ‏{‏وما أبرئ‏}‏ أي تبرئة عظيمة ‏{‏نفسي‏}‏ عن مطلق الزلل وإن غلبه التوفيق والعصمة، أي لم أقصد بالبراءة عما تقدم مجرد التزكية للنفس، وعلل عدم التبرئة بقوله- مؤكداً لما لأكثر الناس من الإنكار، أو لأن اتباعهم لأهويتهم فعل من ينكر فعل الأمارة-‏:‏ ‏{‏إن النفس‏}‏ أي هذا النوع ‏{‏لأمارة‏}‏ أي شديدة الأمر ‏{‏بالسوء‏}‏ أي هذا الجنس دائماً لطبعها على ذلك في كل وقت ‏{‏إلا ما‏}‏ أي وقت أن ‏{‏رحم ربي‏}‏ بكفها عن الأمر به أو بستره بكفها عن فعله بعد إطلاقها على الأمر به، أو إلا ما رحمه ربي من النفوس فلا يأمر بسوء؛ ثم علل ذلك بقوله مؤكداً دفعاً لظن من يظن أنه لا توبة له‏:‏ ‏{‏إن ربي‏}‏ أي المحسن إليّ ‏{‏غفور‏}‏ أي بليغ الستر للذنوب ‏{‏رحيم *‏}‏ أي بليغ الإكرام لمن يريد‏.‏

ولما أتم ما قدمه مما هو الأهم- من نزاهة الصديق، وعلم الملك ببراءته وما يتبعها- على ما كان قلبه من أمر الملك بإحضاره إليه، أتبعه إياه عاطفاً له على ما كان في نسقه من قوله ‏{‏قال ما خطبكن‏}‏ فقال‏:‏ ‏{‏وقال الملك‏}‏ صرح به ولم يستغن بضميره كراهية الإلباس لما تخلل بينه وبين جواب امرأة العزيز من كلام يوسف عليه الصلاة والسلام، ولو كان الكل من كلامها لاستتغنى بالضمير ولم يحتج إلى إبرازه ‏{‏ائتوني به أستخلصه‏}‏ أي أطلب وأوجد خلوصه ‏{‏لنفسي‏}‏ أي فلا يكون لي فيه شريك، قطعاً لطمع العزيز عنه، ودفعاً لتوهم أنه يرده إليه، ولعل هذا هو مراد يوسف عليه الصلاة والسلام بالتلبث في السجن إلى إنكشاف الحال، خوفاً من أن يرجع إلى العزيز فتعود المرأة إلى حالها الأولى فيزداد البلاء‏.‏

ولما كان التقدير‏:‏ فرجع رسول الملك إليه فأخبره أن الملك سأل النسوة فقلن ما مضى، وأمر بإحضاره ليستخلصه لنفسه، فقال يوسف عليه الصلاة والسلام ما تقدم من تلك الحكم البالغة، وأجاب أمر الملك فأتى إليه بعد أن دعا لأهل السجن فقال‏:‏ اللهم‏!‏ عطف عليهم قلوب الأخيار ولا تعم عليهم الأخبار، وكتب على باب السجن‏:‏ هذه منازل البلوى، وقبور الأحياء، وبيوت الأحزان، وتجربة الأصدقاء، وشماتة الأعداء‏.‏ ثم اغتسل وتنظف ولبس ثياباً جدداً وقصد إليه، عطف عليه بالفاء- دليلاً على إسراعه في ذلك- قوله‏:‏ ‏{‏فلما كلمه‏}‏ وشاهد الملك فيه ما شاهد من جلال النبوة وجميل الوزارة وخلال السيادة ومخايل السعادة ‏{‏قال‏}‏ مؤكداً تمكيناً لقوله دفعاً لمن يظن أنه بعد السجن وما قاربه لا يرفعه هذه الرفعة‏:‏ ‏{‏إنك اليوم‏}‏ وعبر بما هو لشدة الغرابة تمكيناً للكلام أيضاً فقال‏:‏ ‏{‏لدينا مكين‏}‏ أي شديد المكنة، من المكانة، وهي حالة يتمكن بها صاحبها من مراده ‏{‏أمين *‏}‏ من الأمانة، وهي حال يؤمن معها نقض العهد، وذلك أنه قيل‏:‏ إن الملك كان يتكلم بسبعين لساناً فكلمه بها، فعرفها كلها، ثم دعا للملك بالعبراني، فلم يعرفه الملك فقال له‏:‏ ما هذا اللسان‏؟‏ قال‏:‏ لسان آبائي، فعظم عنده جداً، فكأنه قيل‏:‏ فما قال الصديق‏؟‏ فقيل‏:‏ ‏{‏قال‏}‏ ما يجب عليه من السعي في صلاح الدين والدنيا ‏{‏اجعلني‏}‏ قيماً ‏{‏على خزائن الأرض‏}‏ أي أرض مصر التي هي لكثرة خيرها كأنها الأرض؛ ثم علله بما هو مقصود الملوك الذي لا يكادون يقفون عليه فقال‏:‏ ‏{‏إني حفيظ‏}‏ أي قادر عل ضبط ما إليّ أمين فيه ‏{‏عليم *‏}‏ أي بالغ العلم بوجوه صلاحه واستنمائه فأخبر بما جمع الله له من أداتي الحفظ والفهم، مع ما يلزم الحفظ من القوة والأمانة، لنجاة العباد مما يستقبلهم من السوء، فيكون ذلك سبباً لردهم عن الدين الباطل إلى الدين الحق‏.‏

ولما سأل ما تقدم، قال معلماً بأنه أجيب بتسخير الله له‏:‏ ‏{‏وكذلك‏}‏ أي ومثل ما مكنا ليوسف في قلب الملك من المودة والاعتقاد الصالح وفي قلوب جميع الناس، ومثل ما سأل من التمكين ‏{‏مكنا‏}‏ أي بما لنا من العظمة ‏{‏ليوسف في الأرض‏}‏ أي مطلقاً لا سيما أرض مصر بتولية ملكها إياه عليها ‏{‏يتبوأ‏}‏ أي يتخذ منزلاً يرجع إليه، من باء- إذا رجع ‏{‏منها حيث يشاء‏}‏ بإنجاح جميع مقاصده، لدخولها كلها تحت سلطانه‏.‏

لتبقى أنفس أهل المملكة وما ولاها على يده، فيجوز الأجر وجميل الذكر مع ما يزيد يه من علو الشأن وفخامة القدر، فكأنه قيل‏:‏ لم كان هذا‏؟‏ فقال‏:‏ لأمرين‏:‏ أحدهما أن لنا الأمر كله ‏{‏نصيب‏}‏ على وجه الاختصاص ‏{‏برحمتنا‏}‏ بما لنا من العظمة ‏{‏من نشاء‏}‏ من مستحق فيما ترون وغيره، لا نسأل عما نفعل، وقد شئنا إصابة يوسف بهذا، والثاني أنه محسن يعبد الله فانياً عن جميع الأغيار ‏{‏و‏}‏ نحن ‏{‏لا نضيع‏}‏ بوجه ‏{‏أجر المحسنين *‏}‏ أي العريقين في تلك الصفة وإن كان لنا أن نفعل غير ذلك؛ روى أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الحكم في أول فتوح مصر من طريق الكلبي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال‏:‏ فأتاه الرسول فقال‏:‏ ألق عنك ثياب السجن، والبس ثياباً جدداً، وهو يومئذ ابن ثلاثين سنة، فلما أتاه رأى غلاماً حدثاً فقال‏:‏ أيعلم هذا رؤياي ولا يعلمها السحرة والكهنة‏!‏ وأقعده قدامه ثم قال‏:‏ قال عثمان- يعني ابن صالح- وغيره في حديثهما‏:‏ فلما استنطقه وسايله عظُم في عينه، وجل أمره في قلبه، فدفع إليه خاتمة وولاه ما خلف بابه- ورجع إلى ابن عباس قال‏:‏ وضرب بالطبل بمصر أن يوسف خليفة الملك؛ وعن عكرمة أن فرعون قال ليوسف‏:‏ قد سلطتك على مصر غير أني أريد أن أجعل كرسيّ أطول من كرسيك بأربع أصابع‏!‏ قال يوسف‏:‏ نعم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏57‏]‏

‏{‏وَلَأَجْرُ الْآَخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ‏(‏57‏)‏‏}‏

ولما كان هذا مما يستعظمه الناس في الدنيا، وكان عزها لا يعد في الحقيقة إلا إن كان موصولاً بنعيم الآخرة، نبه على ما له في الآخرة مما لا يعد هذا في جنبه شيئاً، فقال مؤكداً لتكذيب الكفرة بذلك‏:‏ ‏{‏ولأجر الآخرة خير‏}‏ ولما كان سياق الأحكام على وجه عام لتعليقها بأوصاف يكون السياق مرغوباً فيها أو مرهباً منها أحسن وأبلغ، قال‏:‏ ‏{‏للذين آمنوا‏}‏ أي أوجدوا هذا الوصف ‏{‏وكانوا‏}‏ أي بجبلاتهم ‏{‏يتقون *‏}‏ أي يوجدون الخوف من الله واتخاذ الوقايات منه إيجاداً مستمراً، وهو من أجلهم حظاً وأعلاهم كعباً- كما تقدم بيانه مما يدل على كمال إيمانه وتقواه‏.‏

ولما كان من المعلوم أن من هذه صفاته يقوم بما وليه أتم قيام وينظر فيه أحسن نظر، كان كأنه قيل‏:‏ فجعله الملك على خزائن الأرض فدبرها بما أمره الله به وعلمه حتى صلح الأمر وجاء الخير وذهب الشر، وإنما طوى هذا للدلالة عليه بلوازمه من قصة إخوته التي هي المقصودة بالذات- كما سيأتي، وقد فهم من هذه القصة أن الغالب على طبع مصر الرداءة‏:‏ بغض الغريب، واستذلال الضعيف، والخضوع للقوي، فإنهم أساؤوا إليه بالسجن بعد تحقق البراءة، ثم عفا عنهم وأحسن إليهم بما استبقى به مهجهم، ثم أعتقهم بعد أن استرقهم، ورد إليهم أموالهم بعد أن استأصلها بما عنده من الغلال، فجزوره على ذلك بأن استعبدوا أولاده وأولاد إخوته بعده وساموهم سوء العذاب، وأدل دليل على أن هذا طبع البلد أن بني إسرائيل لما خرجوا مع موسى عليه الصلاة والسلام وخلصهم من جميع ذلك الذل وشرفهم بما شرفهم الله به من الآيات العظام والكتاب المبين، كانوا كل قليل ينكثون مجترئين على ما لا يطاق الاجتراء عليه، وإذا أمرهم عن الله بأمر جنبوا عنه- كما مضى ذلك عن التوراة في الأعراف والبقرة وغيرهما، فعاقبهم الله بالتيه، وكان يسميهم الجيل المعوج- لما علم من سوء طباعهم، حتى مات كل من نشأ بأرض مصر، ثم صار أولادهم يمتثلون الأوامر حتى ملكوا ما وعد الله به آباءهم من البلاد، وقد ذكر ذلك في زبور داود عليه الصلاة والسلام في غير موضع، منها في المزمور الرابع والتسعين‏:‏ هلموا نسجد ونركع ونخضع أمام الرب خالقنا، لأنه إلهنا ونحن شعب رعيته، وضأن ماشيته، اليوم إذا سمعتم صوته فلا تقسو قلوبكم وتسخطوه كمثل السخط يوم التجربة في البرية حيث جربني آباؤكم، فأحصوا أعمالي ونظروها، أربعين سنة مقتُّ ذلك الجيل وقلت‏:‏ هو شعب في كل حين يطغون بقلوبهم، فلم يعتدوا لسلبي كما أقسمت برجزي أنهم لا يدخلون راحتي‏.‏ آباؤنا بمصر لم يفهموا عجائبك، ولم يذكروا كثرة رحمتك حين أغضوك وهم صاعدون من البحر الأحمر، فنجيتهم باسمك لتظهر عجائبك، زجر البحر الأحمر فجف، أجازهم في اللجج كأنهم في البر، خلصهم من أيدي الأعداء، وأنقذهم من أيدي المبغضين، وأطلق الماء على مبغضيهم فلم يبق منهم واحد، فآمنوا بكلامه، ومجدوا بسبحته‏.‏

ثم أسرعوا فنسوا أعماله، ولم ينتظروا إرادته، اشتهوا شهوة في البرية، جربوا الله حيث لا ماء، فأعطاهم سؤلهم، وأرسل شبعاً لنفوسهم، أغضبوا موسى في المعسكر وهارون قديس الرب، انفتحت الأرض، وابتلعت داثان، وانطبقت على جماعة بيرون، واشتعلت النار في محافلهم، وأحرق اللهيب الخطأة، صنعوا عجلاً في حوريب، وسجدوا للمنحوت، وبدلوا مجدهم بشبه عجل يأكل عشباً، ونسوا الله الذي نجاهم، وصنع العظائم بمصر والعجائب في أرض حام، والمهولات في البحر الأحمر، قال‏:‏ إنه يهلكهم لولا موسى صفيه قام بين يديه ليصرف سخطه، لئلا يستأصلهم، ورذلوا الأرض الشهيه، ولم يؤمنوا بكلمته، وتقمقموا في مضاربهم، ولم يسمعوا قول الرب، فرفع يده عليهم ليهلكهم في البرية، ويفرق ذريتهم في الأمم، ويبددهم في البلدان، لأنهم قربوا لباعل فاغور، وأكلوا ضحايا ميتة، وأسخطوه بأعمالهم، وكثر الموت فيهم بغتة، فقام فنحاس واستغفر لهم، فارتفع الموت عنهم، فحسب ذلك برّاً لجيل بعد جيل إلى الأبد، ثم أسخطوه على ماء الخصام، وتألم موسى لأجلهم، وأغضبوا روحه، وخالفوا كلام شفتيه، ولم يستأصلوا الأمم الذين أمرهم الرب، واختلطوا بالشعوب وتعلموا أعمالهم، فكانت عِشرة لهم، ذبحوا بنيهم وبناتهم للشياطين، وضحوا لأصنام كنعان، ودنسوا الأرض بالدماء، وتنجسوا بأعمالهم، وزنوا بأفعالهم، فاشتد غضب الرب على شعبه، ورذل ميراثه، فأسلمهم في أيدي الشعوب، وسلط عليهم شناتهم، واستعبدهم أعداؤهم وخضعوا تحت أيديهم، مراراً كثيرة بجاهم، وهم يسخطونه بأفكارهم، وذلوا بسيئاتهم- انتهى؛ على أنك إذا تأملت وجدت أن الله تعالى يعلي كعب الغريب الذي يستذلونه ويحل سعده ويؤثل مجده- كما فعل بيوسف عليه الصلاة والسلام بعد السجن وببني إسرائيل بعد الاستعباد، وهو نعم المولى ونعم النصير‏!‏ فليحذر الساكن بها من أن يغلب عليه طبعها فيتصف بكل ذلك من قلة الغيرة وبغض الغريب، والجرأة في الباطل استصناعاً ومداهنة، والجبن في الحق، وكمال الذل للجبارين، والمجمجة في الكلام، بأن لا يزال يتعهد نفسه بأوامر الله ويحملها على طاعته، واتباع رسوله ومحبته، والنظر في سيرته وسير أتباعه، والتعشق لذلك كله، حتى يصير له طبعاً يسلخه من طبع البلد، كما فعل عُبادها، وأهل الورع منها وزهادها- أعاذنا الله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، ونسأله أن يختم لنا بالصالحات، وأن يجعلنا من الذين لا خوف عليهم أبداً‏.‏

ذكر ما مضى بعدما تقدم من هذه القصة من التوراة‏:‏ قال‏:‏ فلما كان بعد سنتين رأى فرعون رؤيا كأنه واقف على شاطئ البحر، وكأن سبع بقرات صعدن من بحر النيل حسنات المنظر سمينات اللحوم، يرعين في المرج، وكأن سبع بقرات صعدن خلفهن من النيل قبيحات المنظر وحشيات مهزولات اللحوم، فوقفن إلى جانب البقرات السمان على شاطئ النهر، فابتلع البقرات القبيحات الحسنات المنظر السمينات، فهب فرعون من سنته، ورقد أيضاً فرأى ثاني مرة كأن سبع سنبلات طلعن في قصبة واحدة ممتلئة سماناً، وكأن سبع سنبلات مهزولات ضربهن ريح السموم- وفي نسخة‏:‏ القبول- نبتن بعدهن، فبلغ السنبل المهزول السبع سنبلات الممتلئات، فاستيقظ فرعون فآذته رؤياه، فلما كان بالغداة كربت نفس فرعون، فأرسل فدعا جميع السحرة وكل حكماء مصر، فقص عليهم رؤياه، فلم يوجد إنسان يفسرها لفرعون‏.‏

فتكلم رئيس أصحاب الشراب بين يدي فرعون وقال‏:‏ إني ذكرت يومي هذا ذنبي عند غضب فرعون على عبده، فقذفني في محبس صاحب الشرطة، فحبست أنا ورئيس الخبازين- وفي نسخة‏:‏ الطباخين- فرأينا جميعاً رؤيا في ليلة واحدة، رأى كل امرئ منا كتفسير رؤياه، وكان معنا هناك في الحبس فتى عبراني عند صاحب الشرطة فقصصنا عليه ففسر أحلامنا، وعبر لكل منا على قدر رؤياه، وكل الذي فسر لنا كذلك أصابنا، أما أنا فردني الملك إلى موضعي، وأما ذلك فأمر بصلبه‏.‏

فأرسل فرعون فدعا يوسف عليه الصلاة والسلام، فأحضروه من السجن، فحلق شعره وغير ثيابه، ودخل فوقف بين يدي فرعون، فقال فرعون ليوسف عليه الصلاة والسلام‏:‏ إني رأيت رؤيا وليس لي من يفسرها، وقد بلغني عنك أنك تسمع الرؤيا فتفسرها بأحسن تأويل‏!‏ فأجاب يوسف عليه الصلاة والسلام فقال لفرعون‏:‏ ألعلك تخال أني أجيب فرعون بسلام عن غير أمر الله تعالى‏.‏

فقال فرعون ليوسف‏:‏ إني رأيت في الرؤيا كأني واقف على شاطئ النهر، وكأن سبع بقرات طلعن من النهر حسنات المنظر سمينات اللحم، يرعين في المرج، وكأن سبع بقرات طلعن من النهر بعدهن سمجات قبيحات المنظر مهزولات اللحم جداً، لم أر على هزالها في جميع أرض مصر، فابتلعت البقرات المهزولات الضعيفات القبيحات أولئك السبع بقرات السمان، فدخلن أجوافهن، فلم يتبين دخولهن، وكأن منظرهن قبيحاً كالذي كان من قبل، فانتبهت فاضطجعت فرأيت أيضاً في الرؤيا كأن سبع سنبلات حسنات في قصبة واحدة ممتلئة سماناً حساناً، وكأن سبع سنبلات مهزولات ضربهن ريح السموم نبتن خلفهن، فابتلع السنبل المهزول الضعيف السبع سنبلات الممتلئات الحسان، فقصصت ذلك على السحرة، فلم أجد من يبين‏.‏

فقال يوسف عليه الصلاة والسلام لفرعون‏:‏ الرؤيا يا فرعون واحدة، أطلع الله فرعون على ما هو مزيع أن يفعله، السبع بقرات الحسان والسبع سنبلات الحسان هي سبع سنين‏:‏ خير، الرؤيا واحدة، والسبع بقرات الضعيفات المهزولات اللاتي صعدان بعدهن والسبع سنبلات المهزولات اللاتي ضربها ريح السموم تكون سبع سنين‏:‏ جوع، وهذا القول الذي قلت لفرعون‏.‏

إن الله أظهر ما هو مزمع عتيد أن يفعله، وها هذه سبع سنين يأتي الشبع والخصب العظيم جميع أرض مصر، ويأتي بعدها سبع سنين أخر يكون فيها الجوع، وينسى جميع الشبع، والخصب الذي كان في جميع أرض مصر، فيبيد أهل الأرض من الجوع من أجل الغم الذي يأتي من بعد لكثرته وشدته، وإنما أعيدت الرؤيا لفرعون ثاني مرة، لأن الأمر معد بين يدي الرب، والله معجل فعله‏.‏

والآن فلينظر فرعون رجلاً حكيماً فهماً‏.‏ فيوليه أرض مصر، فيقاسم أهل مصر على الخمس في السبع السنين، فيجمعوا جميع أفقال هذه السنين الخصبة الآتية، ويخزنوا الأفقال تحت يدي فرعون، ويحفظ القمح في القرى، وليكن الفقل معداً محفوظاً لأهل مصر لسبع سني الجوع المزمع أن يكون في جميع أرض مصر، ولا يبيد أهل الأرض بالجوع‏.‏

فحسن هذا القول عند فرعون وعند عبيده، فقال فرعون لقواده‏:‏ هل يوجد مثل هذا الرجل الذي روح الله حالّ فيه‏؟‏ ثم قال فرعون ليوسف عليه الصلاة والسلام‏:‏ إذا أطلعك الله على هذا كله، ليس أحد فهما مثلك، أنت المسلط على بيتي، وعن أمرك وقولي فيك يقبل جميع الشعب، وإنما أنا أعظم منك بالمنبر فقط، وقال فرعون ليوسف‏:‏ انظر فقد وليتك جميع أرض مصر، وخلع فرعون خاتمه من خنصره، فوضعه في خنصر يوسف عليه الصلاة والسلام، وألبسه ثياب كتان، وطوقه بطوق من ذهب، وحمله على بعض مراكبه، ونادى بين يديه‏:‏ هذا أب ومسلط، وسلطانه على جميع أرض مصر، ثم قال فرعون ليوسف عليه الصلاة والسلام‏:‏ إني قد أمرت أن لا يكون أحد يشير بيديه أو يخطو بقدميه دون أمرك في جميع أرض مصر‏.‏

ودعا فرعون اسم يوسف‏:‏ موضح الخفايا، وزوجه بأسنة- وفي نسخة‏:‏ بأسنات- بنت قوطفيرع إمام إسكندرية- وفي نسخة‏:‏ حبر وان- فخرج يوسف عليه السلام والياً على جميع أرض مصر، وكان قد أتى على يوسف ثلاثون سنة إذ وقف بين يدي فرعون، فطاف في جميع أرض مصر‏.‏

وأغلّت الأرض في جميع السبع سني الخصب، ملأ الخزائن وجمع الأقفال في القرى، جمع قمح حقول كل قرية وما أحاط بها فخزنة فيها، وخزن يوسف عليه الصلاة والسلام من الأقفال مثل كثيب- وفي نسخة‏:‏ رمل البحر- كثيراً جداً حتى أعيى إحصاء ذلك فصار غير محصى‏.‏

فولد ليوسف عليه الصلاة والسلام ابنان قبل دخول سنة الجوع، ولدت له أسنة- وفي نسخة‏:‏ أسنات- نبت قوطيفرع حبر وان- وفي نسخة‏:‏ إمام إسكندرية- فدعا يوسف عليه الصلاة والسلام اسم ابنه بكر منشا، لأنه قال‏:‏ إن الله أنساني جميع تعبي- وفي نسخة‏:‏ شقائي- وما كان منه في بيت أبي، وسمى الآخر أفراثيم، وقال‏:‏ لأن الله كثرني في أرض تعبدي، فنفدت سنو الشبع الذي كان في أرض مصر، وبدأت سنو الجوع ليأتي كما قال يوسف عليه الصلاة والسلام، فكان الجوع في جميع أرض مصر، ولم يوجد الخبز في جميع أرض مصر، فجاع جميع أهل مصر، فضج الشعب على فرعون من أجل الخبز، فقال فرعون لجميع المصريين‏:‏ انطلقوا إلى يوسف عليه السلام فافعلوا جميع ما يأمركم به‏.‏